الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تصحيح المفاهيم - مفهوم المواطنة

تصحيح المفاهيم - مفهوم المواطنة

تصحيح المفاهيم - مفهوم المواطنة
خلق الله الإنسان مدنيا بطبعه، متعلقا بموطنه الذي عرفه لأول مرة ونشأ فيه، فالفطرة الإنسانية مجبولة على حب الوطن والارتباط الشعوري والعاطفي به، وتلك فطرة سليمة لا يمكن مدافعتها ولا إخفاؤها، ولكن مفهوم الوطنية لم يقف عند هذا الحد من الأمور الفطرية المشتركة، بل حصل لهذا المصطلح تطور دلالي هائل، ومضامين أيدلوجية خطيرة، ولذلك كان لا بد من عرض هذا المفهوم على السنة النبوية القولية والعملية حتى يتسنى لنا ترشيده وتصويبه بالهدي النبوي الحاكم على كل المفاهيم السائدة.
الوطنية بين الماضي والحاضر:
أولا: لم يأت الإسلام لتفكيك الروابط الإنسانية التي كانت موجودة في المجتمع قبل الإسلام، بل جاء لتعزيزها، ووضعها في المستوى الذي يناسبها، وحدَّ من الآثار السلبية المترتبة على تلك الروابط، فجعل الرابطة الأعلى هي رابطة الإسلام والعقيدة، ورتب علاقات المجتمع بناء على أولويات هذه الرابطة، فصاغ من المسلمين جيلا يقدم الإسلام على النسب، والقبلية، والمناطقية في حال التعارض والتخالف، ويعد هذا الوضع جديدا على المجتمع آنذاك بعد أن كانت تلك الروابط هي أساس الانتماء والنصرة دون أية معايير موضوعية، فصاغهم النبي صلى الله عليه وسلم على أساس إيماني، ونبذ أي دعوة تعارض هذا الأساس المتين.

ثانيا: أقر النبي صلى الله عليه وسلم الناس على انتماءاتهم القبلية، وأوطانهم، ومسمياتهم، وتحالفاتهم، ما دامت لا تعارض دعوة الإسلام، أو تناقض رابطة الأخوة، وصبغها بصبغة الإسلام، فحولها إلى دوائر فاعلة داخل دائرة الإسلام الكبرى للتنافس في خدمة الإسلام، كالأوس والخزرج، وقريش، وبني هاشم، وغيرها، وناداهم بتلك المسميات، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: " لما نزلت هذه الآية {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214] خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف " واصباحاه "، فقالوا: من هذا الذي يهتف؟، قالوا: محمد، قال: فاجتمعوا إليه، فقال: " يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب، أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ "، قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد "، قال: فقال أبو لهب: تبا لك ما جمعتنا إلا لهذا، ثم قام، فنزلت هذه الآية: (تبت يدا أبي لهب وقد تب).

كما جاء بمسميات شرعية إيمانية، تربط المجتمع بالإسلام ولا تلغي الانتماءات القبلية والمناطقية، كالمهاجرين والأنصار، والسابقين الأولين، وأهل بيعة العقبة، والبدريين، وأصحاب الشجرة، وغيرها، ومما يلاحظ أن المسميات الشرعية مشتقة من واقع الكسب والعمل، والتضحية في سبيل الدين، فالمهاجرون نسبة إلى الهجرة من مكة إلى المدينة، والأنصار نسبة إلى النصرة والإيواء، ولم يقل "المكيون والمدنيون"، أو "أهل مكة وأهل المدينة"، مع أنه وصف حقيقي، لكنه أعرض عن المناطقية التي قد تثير فيهم النزعات الجاهلية، وعدل إلى الأوصاف الإيمانية "الهجرة والنصرة"، التي تعزز فيهم روح الانتماء، وتحفزهم على المزيد من التضحيات في سبيل الحق ونصرته، وكذلك وصف "السابقون الأولون" مرتبط بالسابقية الإسلام التي تتضمن التضحية والصبر واحتمال البلاء في ذات الله.

ثالثا:
جعل النبي صلى الله عليه وسلم حدا لتلك المسميات الشرعية، حتى مع كونها روابط إسلامية خالصة لكنها قد تستخدم في العصبية والتفاخر، كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، يقول: كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمعها الله رسوله صلى الله عليه وسلم قال: «ما هذا؟» فقالوا كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوها فإنها منتنة» قال جابر: وكانت الأنصار حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم أكثر، ثم كثر المهاجرون بعد. رواه البخاري في الصحيح، وفي رواية مسلم: "ما بال دعوى الجاهلية؟ ". فسماها النبي صلى الله عليه وسلم دعوى جاهلية لكون تلك المسميات الشرعية استخدمت في نقيض مقصودها، فكيف لو كانت العصبيات على أساس مسميات جاهلية أصلا فذلك جهل على جهل وإيغال في التيه والجاهلية.

ثم وجههم النبي صلى الله عليه وسلم لمنهجية التناصر وفق تعاليم الإسلام لا وفق معاييرهم القبلية أو الوطنية، فقال: «أدعوى الجاهلية؟»، فقالوا: لا والله، إلا أن غلامين كسع أحدهما الآخر، فقال: «لا بأس، لينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما، فإن كان ظالما فلينهه، فإنه له نصرة، وإن كان مظلوما فلينصره» روا الإمام أحمد في المسند.
رابعا: أخذ مصطلح الوطنية أبعادا أيدلوجية خطيرة، وكان هذا الأمر مستنسخا من الغرب الذي جعل الانتماء الوطني مبنيا على جذور عقدية تحل محل الدين، وبنى على ذلك مجموعة من الأفكار والمقتضيات، وحين ننظر في نشأة الفكرة لديه فقد صاحبها كثير من الانحرافات بمفهوم الوطنية كما يلخصها أبو الحسن الندوي بالسمات التالية في كتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين): "الإيمان بالمحسوس، وقلة التقدير لما لا يقع تحت الحس، وغياب تأثير الدين، والانصراف إلى الحياة بما فيها من شهوات ومتع، وتغلب الفكرة الوطنية، فالمواطنة وما يترتب عليها من حقوق والتزمات كانت مقصورة على أهل المدينة فقط مثل: أثينا أو إسبرطة، ومن ثم ففكرة الاستعلاء العرقي أو الجغرافي في الحضارة الغربية لها جذورها الإغريقية القديمة".
خامسا: مفاهيم نبوية في الوطنية
الوطن ليس انتماء عرقيا أو جغرافيا، بل مفهوم الوطن في الهدي النبوي هو البيئة الصالحة لإقامة شعار الدين، سواء كان ذلك في مكان المولد والنشأة أو كان في غيرها، ولذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ارتباطه بمكة ارتباطا وطنيا محضا كما يظنه البعض، وإلا لما فارقها وقضى بقية عمره في المدينة، فقد كان يعرض نفسه على القبائل إبان البعثة حين يوافي المواسم كل عام فيتبع الحجاج في منازلهم بمنى والموقف يسأل عن القبائل قبيلة قبيلة، ويسأل عن منازلهم، ويأتي إليهم في أسواق الموسم وهي عكاظ ومجنة وذو المجاز فيعرض نفسه عليهم ويدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالة ربه.
بل وخرج من مكة إلى الطائف باحثا عن وطن آمن لدعوته، وليس وطنا لنفسه ومكاسبه ومشاريعه الخاصة، إذ لو كان ذلك ما يفكر به فقد عُرض عليه أن يكون في مكة -مسقط رأسه- سيدا مطاعا فيهم بمقابل تركهم وما يعبدون، ولكن مفهوم الوطن مرتبط بإنشاء مجتمع يحكمه الدين ويصوغ جميع جوانب حياته عقيدة وشريعة.
ويؤخذ هذا المفهوم أيضا من هجرته إلى المدينة واستقراره بها حتى بعد فتح مكة، ولم يستقر بها مع أنها قد أصبحت دار إسلام وتوحيد، بل آثر الوطن الجديد؛ لأنه وجد بها النصرة، وتمكن من إقامة الدين وإبلاغ الرسالة كما يريده الله تعالى، إذن فهذه أبعاد نبوية في مفهوم الوطنية، تجعل الظرف المكاني تابعا للدين وليس العكس، فالأرض تراب لا تطيب حتى يكون الدين هو ساقيها.
ثم إن من المفاهيم النبوية للوطن أن تقوم فكرة الوطنية على أساس التشارك الإنساني في حماية الوطن والدفاع عنه وخدمة أهله، فهي إذن فكرة قائمة على البذل والتضحية والإعمار الحقيقي للأوطان، وهذا واضح من خلال وثيقة المدينة التي نصت على أن سكان المدينة معنيون بالدفاع عنها وحماية ثغورها من العدو، والتشارك في مشاريع حسية كبناء المسجد، ومشاريع معنوية كالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.

وهذا يقودنا إلى بُعد آخر من أبعاد الوطنية بالمفهوم النبوي أن النبي صلى الله عليه وسلم أزال الفوارق العنصرية بين سكان المدينة الأصليين وبين القادمين من مكة من إخوانهم المهاجرين، بحيث هيأ النفوس والأرواح، فأذاب كل رواسب الماضي، بل وجعل الأنصار أمام مهمة أخوية صادقة من الإيثار المتمثل في استيعاب الوافدين إليهم في بيوتهم ومزارعهم وأسواقهم من غير شعور بنزعة الوطنية تجاه إخوانهم الذين هاجروا إليهم، وصور الإيثار التي أثنى عليهم القرآن بها كثيرة ومعروفة.
ومن الأبعاد النبوية في مفهوم الوطنية أنه صلى الله عليه وسلم لم يجعل حدود الوطن تحاصر عالمية الإسلام في نفوس الصحابة بل كانت منطلقا لهم إلى العالم الأوسع دعاة ومصلحين، فلم تكن وطنيتهم عائقا لهم عن نصرة إخوانهم المسلمين، وتبني قضاياهم خارج حدود المدينة، وهكذا ظلت الدولة الإسلامية محافظة على هذا المفهوم حتى انحرف مفهوم الوطنية في ظل الدولة الحديثة التي جعلت الانتماء الوطني بديلا عن الانتماء للدين والعقيدة، فهذا المفهوم لا يتفق مع المفهوم النبوي أصلا، وقد أثبت الواقع خلال القرنين الماضيين فشل هذا المفهوم، بحيث تحولت الوطنية إلى شعار فارغ يحمله أكثر الناس فسادا وعبثا بمقدرات الأوطان وثرواتها.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة