مما لا شك فيه أن نشأة ظاهرة التكفير وانتشارها يرجع إلى عدد من الأسباب التي يحسن أن نبين بعضها كما يلي:
أولا: الجهل:
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (ولا ريب أن الجهل أصل كل فساد، وكل ضرر يلحق العبد في دنياه وأخراه فهو نتيجة الجهل).
إن القاسم المشترك بين كثير ممن يسارعون إلى تكفير المسلمين هو الجهل بشريعة الله تعالى، يقول ابن تيمية رحمه الله: (والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل).
ولقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج – وهم أول من خرج على الأمة بهذه البدعة المنكرة – بقوله "يقرءون القرآن، لا يجاوز تراقيهم"والمراد: أن تلاوتهم باللسان دون استقرار الإيمان والفهم في القلب.
ويقول عنهم الإمام القرطبي رحمه الله: (ويكفيك من جهلهم وغلوهم في بدعتهم حكمهم بتكفير من شهد له رسول الله بصحة إيمانه وبأنه من أهل الجنة).
ويقول ابن تيمية رحمه الله: (من ادعى دعوى وأطلق فيها عنان الجهل مخالفاً فيها لجميع أهل العلم، ثم مع مخالفتهم يريد أن يكفر ويضلل من لم يوافقه، فهذا من أعظم ما يفعله كل جهول مغياق – المغياق هو مختلط الرأي فاسده -).
وإذا أردت مثالا عمليا على جهل هؤلاء فارجع إلى قصة ذي الخويصرة ذلك الأعرابي الجاهل الذي جاء يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد اعدل، فقال صلى الله عليه وسلم: "ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟!"متفق عليه. ولو جلس هؤلاء إلى أهل العلم وأخذوا عنهم لنجوا من هذه الآفة العظيمة ومن غيرها من الآفات: "إنما شفاء العي السؤال"رواه أبو داود.
ثانيا: اتباع الهوى:
إن اتباع الهوى هو آفة من أعظم الآفات؛ فالهوى يستعبد الإنسان ويأسره ويجعله في ضلال، قال الله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (القصص: 50). وقال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 23).
لقد دأبت الفرق المنحرفة عن هدي الكتاب والسنة على تكفير مخالفيها، حتى أصبح سمتاً للفرق المبتدعة المختلفة، يقول ابن تيمية: (ومن البدع المنكرة تكفير الطائفة غيرها من طوائف المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم … وهذا حال عامة أهل البدع الذين يكفر بعضهم بعضاً … وهؤلاء من الذين قال الله تعالى فيهم: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء} (الأنعام: 159) ).
إن كثيرا من هؤلاء الذين يسارعون إلى تكفير المسلمين بغير بينات هم في الحقيقة فعلوا ذلك اتباعا لأهوائهم ونفوسهم المريضة، ولم يكن ذلك منهم لعلم اكتسبوه ليس عند غيرهم، بل تبعا لهواهم، والهوى يعمي ويصم. وانظر إلى أحد قتلة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، فإن هذا المجرم طعن عثمان تسع طعنات، وقال: ثلاث لله، وست لما في نفسي. ولو صدق لقال: تسع لما في نفسي.
وإذا كان صلاح بني آدم بالإيمان والعمل الصالح، فإنه لا يخرجهم عن ذلك إلا الجهل واتباع الهوى.
ثالثا: تصدر من ليس أهلا للإفتاء:
إن من أهم أسباب انتشار هذه الظاهرة التضييق على العلماء الراسخين ومنع الناس من الوصول إليهم، فيضطرون إلى التماس العلم عند الأصاغر الذين يتجرأون على ما يقف عنده العلماء، وقد قال رسول الله صلى الله: "إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر"أخرجه الطبراني.
وقد استشعر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا الخطر فحذر من هؤلاء الأغرار: "ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه، ولا من فاسقٍ بَيِّن فسقه، ولكني أخاف عليها رجلاً قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه، ثم تأوله على غير تأويله".
يقول ابن قتيبة: "لا يزال الناس بخير ما كان علماؤهم المشايخ، ولم يكن علماؤهم الأحداث، لأن الشيخ قد زالت عنه حِدَّة الشباب ومتعته وعجلته، واستصحب التجربة في أموره، فلا تدخل عليه في علمه الشُّبه، ولا يستميله الهوى، ولا يستزله الشيطان، والحَدَثُ قد تدخل عليه هذه الأمور التي أمنت على الشيخ، فإذا دخلت عليه، وأفتى هلك وأهلك".
ومن أهم العلاجات لهذه الآفة ألا يحال بين العلماء وبين الناس حتى يبينوا للناس دينهم ويزيلوا شبهات هؤلاء المنحرفين عن الجادة.
رابعا: انتقاص الدين والتدين:
إن الاستهزاء بالدين ومهاجمته في وسائل الإعلام، وانتقاص المتدين بسبب هديه وسمته، بل والجرأة على ثوابت الدين دون خوف من عقوبة رادعة، قد تدفع بعض الغيورين – مع قلة العلم – إلى العزلة والشعور بأنه لا يمكن أن يقوم بهذا أو يسمح به مسلم، فيقع في تكفير المجتمع.
ومن أهم العلاجات لذلك: حماية جناب الدين من المعتدين عليه، والأخذ على أيديهم، وتطبيق القانون عليهم بحزم، وعدم السماح بالتطاول على الدين أو مظاهر التدين في المجتمع؛ حتى لا يتخذ ذلك ذريعة لوصم المجتمعات بالكفر.
خامسا: الاغترار ببعض المعروفين بالصلاح والاستقامة ممن وقعوا في التكفير:
مما يوقع بعض الشباب في تكفير الأفراد والمجتمعات اغترارهم بصدور ذلك ممن يبدو عليه سيما الصلاح والاستقامة، فيقلدونهم في ذلك ثقة بهم، ولعل هؤلاء لم ينتبهوا إلى تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الخوارج حين قال: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية""متفق عليه". فهذا الصلاح الظاهر صاحبه انحراف في الفهم وصل بهؤلاء الخوارج إلى حد العمى، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (قوم أصابتهم فتنة فعموا وصموا).
إنهم لضلالهم عمدوا إلى الآيات التي نزلت في الكافرين فجعلوها على المؤمنين؛ لهذا قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم : (هم شرار الخلق والخليقة)رواه الإمام أحمد وأبوداود وابن ماجه.
ومن أهم أسباب العلاج لهذا السبب أن يتربى الشباب على أيدي أهل العلم الراسخين، وأن يستقر في نفوسهم أن الحق لا يعرف بالرجال، بل الرجال يوزنون بالكتاب والسنة، فمن وافق قوله وفعله الكتاب والسنة قبلناه، ومن خالفهما رددناه.
نسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقا وأن يرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، وأن يقينا والمسملين شر الفتن ما ظهر منها وما بطن.