الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فيحسن بنا أن نبدأ بقاعدة مهمة وهي أن الحجة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا في قول أحد مهما علت منزلته، وبهذا جاءت نصوص الكتاب والسنة وأقوال علماء هذه الأمة. وكم ضل من ضل بسبب تقديم أقوال العلماء على نصوص الكتاب والسنة في مسائل وردت فيها نصوص صريحة، وليست من مسائل الاجتهاد، ونرجو مطالعة الفتوى رقم 2556.
ويمكننا أن نجمل جواب ما أوردت بهذا السؤال من مسائل في النقاط الآتية:
النقطة الأولى: أن البناء على القبور حرام لثبوت النهي عن ذلك، والأصل في النهي التحريم ما لم يرد صارف عنه، وراجع الفتوى رقم: 33304، ولو لم يكن البناء على القبور إلا ذريعة إلى الوقوع في الشرك كما هو حاصل الآن لكفى دليلا على التحريم، كيف وقد ورد ذلك النهي الصريح، وانظر الفتوى رقم 30053.
ولا يصح الاحتجاج بكون قبر النبي صلى الله عليه وسلم داخل مسجده، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يدفن داخل مسجده، ولم يدخل قبره داخل مسجده في عهد الخلفاء الراشدين، وإنما حدث ذلك في عهد الوليد بن عبد الملك، وقد أنكر ذلك العلماء في زمانه كابن المسيب وغيره، فكيف يعارض ما ورد عنه من اتخاذ القبور مساجد بمثل هذا ؟! وراجع الفتوى رقم 30099.
وقد ورد الشرع أيضا بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد، ومما ذكر في علة النهي عن اتخاذ القبور مساجد ما ذكره أهل العلم كالشافعي وغيره أن ذلك خوف الفتنة بالمخلوقين، وأما حصر معنى الحديث في النهي عن السجود لها أو الصلاة إليها كما يفعل اليهود والنصارى فلا نعلم قائلا به. بل قال الصنعاني في سبل السلام: واتخاذ القبور مساجد أعم من أن يكون بمعنى الصلاة إليها أو بمعنى الصلاة عليها. اهـ. وراجع الفتوى رقم: 37053.
ويؤكد هذا ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة وأنها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة. فدل ذلك على أن مجرد بناء المساجد على القبور محرم سواء أصلي إليها أو عليها.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب. فلا يدل على عدم وقوع ذلك، قال الشيخ ابن عثيمين في فتاويه: فإن قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد خطب الناس بعرفة، وقال: ( إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ) ؛ فكيف تقع عبادته؟
فالجواب: أن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بيأسه لا يدل على عدم الوقوع، بل يجوز أن يقع، على خلاف ما توقعه الشيطان ؛ لأن الشيطان لما حصلت الفتوحات، وقوي الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجا ؛ يئس أن يعبد سوى الله في هذه الجزيرة، ولكن حكمة الله تأبى إلا أن يكون ذلك. اهـ.
النقطة الثانية: وأما التمسح بقبره صلى الله عليه وسلم فقد كرهه أكثر العلماء فعلا، ولكن من المعلوم أن الغالب عند المتقدمين إطلاق لفظ الكراهة وقصدهم بذلك كراهة التحريم كما نبه على ذلك ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين، وذكر ذلك غيره من العلماء. وانظر كيف شدد النووي في الأمر واستدل بأدلة إبطال البدع مع أنه نقل قول أكثر العلماء بالكراهة حيث قال في كتابه "المجموع": لا يجوز أن يطاف بقبره صلى الله عليه وسلم، ويكره إلصاق الظهر والبطن بجدار القبر، قاله أبوعبيد الله الحليمي وغيره، قالوا: ويكره مسحه باليد وتقبيله، بل الأدب أن يبعد منه كما يبعد منه لو حضره في حياته صلى الله عليه وسلم. هذا هو الصواب الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه، ولا يغتر بمخالفة كثيرين من العوام وفعلهم ذلك، فإن الاقتداء والعمل إنما يكون بالأحاديث الصحيحة وأقوال العلماء، ولا يلتفت إلى محدثات العوام وغيرهم وجهالاتهم. وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: { من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد } وفي رواية لمسلم { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم } رواه أبو داود بإسناد صحيح. وقال الفضيل بن عياض رحمه الله ما معناه: اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين. ومن خطر بباله أن المسح باليد ونحوه أبلغ في البركة، فهو من جهالته وغفلته، لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع، وكيف يبتغى الفضل في مخالفة الصواب؟! اهـ.
وقال ابن قدامة في المغني: فصل: ولا يستحب التمسح بحائط قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا تقبيله، قال أحمد: ما أعرف هذا. قال الأثرم: رأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسون قبر النبي صلى الله عليه وسلم يقومون من ناحية فيسلمون. قال أبو عبد الله: وهكذا كان ابن عمر يفعل. قال: أما المنبر فقد جاء فيه. يعني ما رواه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد القارئ، أنه نظر إلى ابن عمر، وهو يضع يده على مقعد النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر ثم يضعها على وجهه. اهـ.
وأما ابن عمر رضي الله عنهما فلم يرد عنه التمسح بالقبر وإنما ورد عنه مسح المنبر، ولهذا رخص فيه الإمام أحمد، ولم يرخص في التمسح بقبره صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ عبد العزيز بن باز في فتاويه: وأما ما نقل عن ابن عمر رضي الله عنهما من تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم واستلامه المنبر فهذا اجتهاد منه رضي الله عنه لم يوافقه عليه أبوه ولا غيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وهم أعلم منه بهذا الأمر، وعلمهم موافق لما دلت عليه الأحاديث الصحيحة.
وقد قطع عمر رضي الله عنه الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية لما بلغه أن بعض الناس يذهبون إليها ويصلون عندها خوفا من الفتنة بها وسدا للذريعة. اهـ.
ثم إنه لو ثبت جواز ذلك لكان خاصا به صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقاس عليه غيره، ولهذا لم يثبت عن أحد من السلف فعل مثل ذلك مع قبر غيره أو مع منبر غير منبره وانظر الفتوى رقم: 80355.
وأما القول بأن دليل جواز مثل هذه الأمور أنه لم يرد دليل على المنع فاستدلال في غير محله، لأن الأصل في الأمور التعبدية المنع حتى يرد الدليل على جوازها.
النقطة الثالثة: أن تجصيص القبور قد ورد النهي عنه، وذهب أكثر العلماء إلى كراهته، بل نقل بعضهم الاتفاق على ذلك، والقول في الكراهة كالقول في سابقه، قال الخادمي في كتابه " بريقة محمودية" – وهو حنفي -: الفصل الثالث: في أمور مبتدعة باطلة،.... وتجصيص القبور والبناء علها والكتابة على أحجارها... اهـ. ولم نجد فيما اطلعنا عليه ما يدل على أن الحنفية يقولون بجواز التجصيص، وإنما ورد عنهم النهي عنه كما ذكرنا. ثم إن هذا التجصيص الموجود اليوم والذي تخص به بعض القبور تعظيما لأصحابها واعتقادا في جلب النفع منهم أو دفع الضر، فلا يقول به أحد من العلماء فيما نعلم، لأن ذلك ذريعة إلى الشرك الصريح.
والله أعلم.