قال وقد زعمتم أن الإيمان خلتان : المعرفة ، والإقرار ، ثم زعمتم أن العارف قد يعرف ، ويجحد ، وأن المرء قد يقر بلسانه ، وينكر بقلبه ، كما وصف الله عز وجل عن المنافقين . أبو عبد الله :
فإن قال منهم قائل : ليس الإيمان هو المعرفة ، ولكنه الخضوع مع المعرفة .
قيل لهم : المسألة على حالها في الخضوع كالمسألة في الحب ، إذ كانت المعرفة لا يكون إيمانا إلا بخضوع ، وليس الخضوع هو المعرفة ، وقد أضفتموه إليها ، فكذلك الحب يقوم بالخضوع ، والمسألة على حالها ، ولو كان الحب ليس جزءا من الإيمان ، ولا البغض جزءا من الكفر ، لجاز أن يفترقا ، فيكون إيمان بلا حب ، وبغض بلا كفر ، لأنكم وإن ادعيتم أن المعرفة لا يكون إيمانا إلا [ ص: 742 ] ومعها خضوع ، فقد زعمتم أن الإقرار يكون باللسان ، ليس معه معرفة ، ولا خضوع ، كما وصف الله عز وجل عن المنافقين ، فإذا كان الإيمان معرفة وخضوعا ، وإقرارا باللسان ، ولا يتم المعرفة والخضوع إلا بالإقرار باللسان ، والإقرار هو إيمان في عينه ، فجاز أن يوجد بعض الإيمان في زوال بعض ، فكذلك جائز أن يزول الحب والإيمان في القلب ، لأن الحب عن الإيمان ، وكما وجد إقرار بلا تصديق ، فكذلك جائز أن يوجد تصديق بلا حب ، فإن زعمتم أن الإقرار فرع من الإيمان ، فكذلك الحب فرع من الإيمان ، وكما وجد فرع بلا أصل ، فجائز أن يوجد حب بلا تصديق . والإقرار في نفسه إيمان ،
فإن قالوا : ذلك محال .
قيل لهم : فقد ثبتم أن الحب لله أوجب أن يكون إيمانا من الإقرار باللسان ، إذ كان الإقرار قد ينفرد دون التصديق ، فيكون إقرارا ، ولا تصديق ، ولا ينفرد الحب من الإيمان ، ولا يفارقه ، فإذا كان الإقرار ينفرد من التصديق ، فإن يقدمه التصديق صار الإقرار إيمانا ، وإذا انفرد لم يصر إيمانا ، فالحب أولى أن يكون إيمانا ، إذ لا جائز أن ينفرد من التصديق ، فالحب على دعواكم أوكد [ ص: 743 ] من الإقرار باللسان أن يكون إيمانا ، وكذلك البغض أوكد أن يكون كفرا ، وذلك أن الله عز وجل قد رخص لمن خاف على نفسه من العدو أن يعطيهم الجحد بلسانه ، فيكون مؤمنا ، وقد أتى ما يجحد بلسانه ، وبقي التصديق في قلبه ، ولا يكون مؤمنا حتى يفارق البغض لله ، وقد ينفرد الجحد باللسان عند الرخصة من التصديق ، فلا يكون كفرا ، ولا ينفرد البغض من التصديق إلا كان كفرا ناقضا للتصديق ، والبغض لا يكون من أحد أبدا إلا كان ناقضا للتصديق ، فالبغض أولى أن يكون كفرا ، فقد ناقضتم دعواكم فيه في دعواكم مع خروجكم من قول جميع الأمة ، لأن البغض لله في عينه ليس بكفر ، وأن الحب ليس بإيمان . فالجحد باللسان للرخصة لا ينقض التصديق ،
فإن قالوا : الحب ليس بإيمان ، والبغض كفر ، لأن البغض شتم .
قيل لهم : وكذلك الحب مدح .
فإن قالوا : إنا قد نحب من يستأهل عندنا ، ولا يستأهل ، ولا نبغض إلا من يستأهل البغض ، فالبغض شتم .
قيل لهم : وكذلك الحب مدح على قولكم ، ولا جائز [ ص: 744 ] للعاقل أن يحب من لا يستأهل الحب في معنى من المعاني ، كما لا جائز أن يبغض إلا من يستأهل البغض ، ومع ذلك إنكم قد فرقتم ، فزعمتم أن اثنين متضادين أحدهما ضد للآخر ، وأحدهما كفر ، وضده ليس بإيمان ، فإذا كان قد تأتي بالحب ، فلا يكون ذلك منه إيمانا ضدا للكفر ، فكذلك جائز أن يأتي بالبغض ، ولا يكون الإيمان يخرجه منه ، فإن لم يجز إلا أن يكون البغض كفرا ، لم يجز إلا أن يكون الحب إيمانا ، لأن الإيمان ضده الكفر ، وأحدهما ينفي الآخر ، فإذا كان البغض في عينه كفرا ينفي الإيمان ، فكذلك الحب في عينه إيمان ينفي الكفر ، لا فرق بين ذلك عند من يفهم المعقول ، ويعقل اللغة .
فإن قالوا : إن الحب إيمان ، والبغض كفر .
قيل لهم : وأين وجدتم هذا في اللغة أن الحب تصديق ، وأن البغض جحد ؟ !فإن قالوا : وإن لم نجده في اللغة ، فإن التصديق لا يفارق الحب ، ولا جائز أن يكون مصدق إلا محبا ، والبغض لا يفارق الكفر ، ولا جائز أن يكون مبغض إلا كافرا .
قيل لهم : فقد جعلتم ما أوجبه الإيمان إيمانا ، وما [ ص: 745 ] أوجبه الكفر كفرا ، فكذلك كل ما كان عن الإيمان والكفر ، وكانا سببا له فهو إيمان ، أو كفر من عمل القلب والجوارح ، فقد خرجتم من اللغة التي بها اعتللتم ، ووافقتم مخالفيكم ، فإن الفرقة التي قالت : إن الإيمان هو الخضوع مع المعرفة ، فكل خاضع مطيع .
قيل : وأين وجدتم الخضوع في اللغة إيمانا ؟ !
فإن قالوا : وجدنا الله تبارك وتعالى حكم لمن فعله أنه مؤمن ، وكفر من لم يخضع .
قيل لهم : فلم تأخذوا ذلك عن اللغة ، وإنما أخذتموه عن الله ، فإن كان الخضوع من الإيمان ، فكل خضوع إيمان ، إذا اتبعتم أمر الله ، وخرجتم مما تعقلون من اللغة ، فالخضوع بالقلب ، والبدن ، ألا تسمع إلى قوله : ( فظلت أعناقهم لها خاضعين ) ، فثبت الخضوع للأعناق ، فحيث ما يوجد خضوع لله فهو إيمان ، وحيث وجد إباء واستكبار ، أو ترك لأمره فهو كفر ، فالترك مع الإباء كفر ، كما كان الفعل بالخضوع والإرادة إيمانا ، فإن كانت المرجئة إنما قالت : إن الإقرار إيمان مع تصديق القلب ، لأنه تحقيق للتصديق ، فكذلك عمل الجوارح كلها . لو قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل : آمن بالله ، واشهد أن لا إله إلا الله ، أو قال : آمن ، وأقر بلسانك ، فقال [ ص: 746 ] بلسانه : آمنت بالله معبرا عما في قلبه لكان ذلك دالا على تحقيق ما في قلبه من المعرفة ، وإن كان الله يلي علم السرائر .
كذلك لو قال لرجل : آمن بالله ، وقم ، فصل ، فبادر إلى الوضوء ، فتوضأ ، وصلى ، لكان ذلك منه إقرارا ، وإن لم يقر بلسانه .
ولو قال : إن الله يأمرك أن تخرج من مالك ألف درهم ، فلم يقل : نعم ، فبادر ، فأعطاها النبي صلى الله عليه وسلم ، لكان ذلك يقوم مقام الإقرار ، محققا لمعرفته بالله ، إذ أبدى الطاعة ، وسارع إليها ، كما سارع إليها المقر بلسانه ، فقد قامت الجوارح مقام اللسان في التحقيق للمعرفة ، وإن كان اللسان أعظم قدرا عند الله بالشهادة ، فكل يحقق للمعرفة .
قال : ويقال لهم : أرأيتم رجلا زنديقا ، أو نصرانيا كان جالسا في سفينة ، أو رأس جرف مطلا على الماء ، فتدبر ، وتفكر في الخلق ، فعرف أن الله واحد لا شريك له ، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم جاء بالحق من عنده ، علم الله صدق ذلك منه ، فزلت قدمه ، فغرق قبل أن يتشهد بلسان ، هل يكون ذلك مؤمنا ؟ !
فإن قالوا : نعم ، قيل لهم : مستكمل الإيمان ؟ ! [ ص: 747 ] فإن قالوا : نعم ، قيل لهم : فأين الإقرار .
فإن قالوا : لم يبق إلى أن يؤدي الإقرار .
قيل لهم : فقد شهدتم بأن التصديق بلا إقرار إيمان كامل ، فإن أمكنه الإقرار ، فلم يقر أينقص الإيمان الكامل عندكم ؟ فإن أقر كمل الإيمان ، فشهدتم له بالكمال في وقت ، ثم زعمتم أنه مكمل في وقت ثان ، فكيف يكمل ما قد كمل ؟ !
فإن قلتم : إنما كمل المفترض عليه في ذلك الوقت ، ولم يفترض عليه الإقرار إن لم يبق ، فإن بقي فأقر ، زاد كمالا إلى كماله ، لأنه كان كاملا من جهة الواجب في وقته ، كاملا من جهة ما أتى به غيره ممن يفي ، فصدق ، وأقر .
قيل لهم : فهذا الذي زعمتم على أهل السنة أن الفرض من الإيمان إذا لزم العبد ، فأداه في وقته فقد أدى ما عليه ، ولم يأت بباقي الفرض من الإيمان الذي لزم غيره ، فإن بقي إلى وقت ثان ، فأدى من الفرض ما أدى غيره كان زيادة على إيمانه الأول ، كما قلتم في المصدق في الوقت الأول ، ثم عوجل بالموت قبل أن يأتي وقت ثان ، ولو أتى وقت ثان ، فشهد فيه كان زيادة على إيمانه الأول ، لا فرق بين ذلك . [ ص: 748 ]
فإن قالوا : إن الذي صدق ، ثم عوجل بالموت قبل أن يقر باللسان ، إن نوى أن يقر بالله ، ويشهد بلسانه ، فهو مؤمن ، وإلا فهو كافر .
قيل لهم : فقد ضمنتم إلى التصديق النية ، وليست في اللغة ، وتركتم قولكم : أرأيتم إن صدق في أول وقت ، فعوجل قبل أن ينوي أن يتشهد ، فمات أمؤمن هو ؟ !
فإن قالوا : لا ، فالذي نوى ، فعوجل قبل أن يأتي وقت الإقرار أيضا ليس بمؤمن ، فإن كان مؤمنا إذ لم يأت الوقت الذي يمكنه فيه الإقرار قبل تصديقه ، لأنه عجل قبل ذلك ، فكذلك من عرف في أول الوقت ، ثم عوجل قبل ذلك ، فكذلك من عرف في أول الوقت ، ثم عوجل قبل أن يأتي وقت ينوي فيه ، فقد جعلوا الإيمان تصديقا بالقلب ، ما لم يأت وقت عمل جارحه ، فإذا أتى وقت يمكنه فيه التشهد كان التشهد فيه إيمانا إلى إيمانه الأول ، فكذلك جميع عمل الجوارح إذا أتى أوقاتها ، فأمكنه القيام بها كان قيامه بها زيادة على إيمانه الأول ، لا فرقان بين ذلك .
فإن زعموا أنه إذا صدق بقلبه بأن الله واحد ليس كمثله شيء ، ثم عوجل بالموت قبل أن يمكنه التشهد أنه كافر ، فقد كفروا من هو مؤمن في اللغة ، لأن الله عز وجل قال لإبراهيم : ( أولم تؤمن قال بلى ) . [ ص: 749 ]
فإنما عبر عن إيمان قد كان قبل العبادة ، وهو التصديق ، وقال إخوة يوسف : ( وما أنت بمؤمن لنا ) ، أي مصدق ، فقد خرجوا من قولهم ، وزعموا أن المؤمن في اللغة كافر بغير ترك منه للإقرار ، وهو ينكره ، فكفروه بغير جحود ، ولا إباء للإقرار ، ولا امتناع منه ، وهو الخروج من اللغة ، ومن قول جميع الأمة ، إذ الكفر لا يكون إلا جحودا بالقلب ، أو تكذيبا بالقلب ، أو باللسان ، أو إباء ، أو امتناعا باستكبار واستنكاف .
فكذلك لو أن عبدا عند البلوغ وهو صحيح مسلم اعتقد بقلبه أن الله واحد لا شريك له ، وأن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حق ، ثم أفلج قبل أن يجيء وقت الإقرار باللسان ، فيبست يداه ، ولسانه ، فمكث بذلك عشر سنين مصدقا بقلبه ، لا يمكنه الإقرار باللسان ، ولا الإشارة بجارحه ، فيلزمهم أن يقولوا إنه عاش كافرا حتى مات ، وهذا الخروج من اللغة ، ومن قول الأمة كلها .
فإن قالوا : هو مؤمن ، فلا فرقان بينه وبين المصدق ، والمعاجل بالفرض قبل أن يأتي وقت يمكنه فيه الإقرار ، وكذلك إن صدق ، ثم جن ، فزال عقله مع آخر وقت التصديق قبل أن يأتي وقت يمكنه فيه الإقرار ، لا فرقان بينه وبين المعاجل بالفرض ، فقد تركوا [ ص: 750 ] قولهم ، ونقضوا أصلهم ، وأقروا بزيادة الإيمان بعد ما شهدوا له بالكمال .