وأما قوله تعالى : ( كذلك زينا لكل أمة عملهم ) فاحتج أصحابنا بهذا على أنه تعالى هو الذي زين للكافر الكفر ، وللمؤمن الإيمان ، وللعاصي المعصية ، وللمطيع الطاعة . قال الكعبي : حمل الآية على هذا المعنى محال ؛ لأنه تعالى هو الذي يقول : ( الشيطان سول لهم ) [ محمد : 25 ] ويقول : ( والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ) [ البقرة : 257 ] ثم إن القوم ذكروا في الجواب وجوها :
الأول : قال الجبائي : المراد زينا لكل أمة تقدمت ما أمرناهم به من قبول الحق . والكعبي أيضا ذكر عين هذا الجواب فقال : المراد أنه تعالى زين لهم ما ينبغي أن يعملوا وهم لا ينتهون .
الثاني : قال آخرون : المراد زينا لكل أمة من أمم الكفار سوء عملهم ، أي خليناهم وشأنهم وأمهلناهم حتى حسن عندهم سوء عملهم .
والثالث : أمهلنا الشيطان حتى زين لهم .
والرابع : زيناه في زعمهم وقولهم : إن الله أمرنا بهذا وزينه لنا ، هذا مجموع التأويلات المذكورة في هذه الآية ، والكل ضعيف ، وذلك لأن الدليل العقلي القاطع دل على صحة ما أشعر به ظاهر هذا النص ، وذلك لأنا بينا غير مرة أن صدور الفعل عن العبد يتوقف على حصول الداعي ، وبينا أن تلك الداعية لا بد وأن تكون بخلق الله تعالى ، ولا معنى لتلك الداعية إلا علمه واعتقاده أو ظنه باشتمال ذلك الفعل على نفع زائد ، ومصلحة راجحة ، وإذا كانت تلك الداعية حصلت بفعل الله تعالى ، وتلك الداعية لا معنى لها إلا كونه معتقدا لاشتمال ذلك الفعل على النفع الزائد والمصلحة الراجحة ، ثبت أنه ، وأيضا يمتنع أن يصدر عن العبد فعل ، ولا قول ولا حركة ولا سكون ، إلا إذا زين الله تعالى ذلك الفعل في قلبه وضميره واعتقاده ، والعلم بذلك ضروري ، بل إنما يختاره لاعتقاده كونه إيمانا وعلما وصدقا وحقا فلولا سابقة الجهل الأول لما اختار هذا الجهل . الإنسان لا يختار الكفر والجهل ابتداء مع العلم بكونه كفرا وجهلا
الثاني : ثم إنا ننقل الكلام إلى أنه لم اختار ذلك الجهل السابق ، فإن كان ذلك لسابقة جهل آخر فقد لزم أن يستمر ذلك إلى ما لا نهاية له من الجهالات وذلك محال ، ولما كان ذلك باطلا وجب انتهاء تلك الجهالات إلى جهل أول يخلقه الله تعالى فيه ابتداء ، وهو بسبب ذلك الجهل ظن في الكفر كونه إيمانا وحقا وعلما وصدقا ، فثبت أنه يستحيل من الكافر اختيار الجهل والكفر إلا إذا زين الله تعالى ذلك الجهل في قلبه ، فثبت بهذين البرهانين القاطعين القطعيين أن الذي يدل عليه ظاهر هذه الآية ، هو الحق الذي لا محيد عنه ، وإذا كان الأمر كذلك ، فقد بطلت التأويلات المذكورة بأسرها ؛ لأن المصير إلى التأويل إنما يكون عند تعذر حمل الكلام على ظاهره ، أما لما قام الدليل على أنه لا يمكن العدول عن الظاهر ، فقد سقطت هذه التكليفات بأسرها والله أعلم .
وأيضا فقوله تعالى : ( كذلك زينا لكل أمة عملهم ) بعد قوله : ( فيسبوا الله عدوا بغير علم ) مشعر بأن إقدامهم على ذلك المنكر ، إنما كان بتزيين الله تعالى ، فأما أن يحمل ذلك على أنه تعالى زين الأعمال الصالحة في قلوب الأمم ، فهذا كلام منقطع عما قبله ، وأيضا فقوله : ( كذلك زينا لكل أمة عملهم ) يتناول الأمم الكافرة والمؤمنة ، فتخصيص هذا الكلام بالأمة المؤمنة ترك لظاهر العموم ، وأما سائر التأويلات ، فقد ذكرها صاحب " الكشاف " ، وسقوطها لا يخفى ، والله أعلم .
أما قوله تعالى : ( ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون ) فالمقصود منه أن أمرهم مفوض إلى [ ص: 117 ] الله تعالى ، وإن الله تعالى عالم بأحوالهم ، مطلع على ضمائرهم ، ورجوعهم يوم القيامة إلى الله ، فيجازي كل أحد بمقتضى عمله إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .