( أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين )
قوله تعالى : ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين )
اعلم أن القوم لما طلبوا منه المعجز قال : معجزي هذا القرآن ، ولما حصل المعجز الواحد كان طلب [ ص: 156 ] الزيادة بغيا وجهلا ، ثم قرر كونه معجزا بأن تحداهم بالمعارضة . وتقرير هذا الكلام بالاستقصاء قد تقدم في البقرة وفي سورة يونس . وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : الضمير في قوله : ( افتراه ) عائد إلى ما سبق من قوله : ( يوحى إليك ) أي : ، وقوله : ( إن قالوا : إن هذا الذي يوحى إليك مفترى فقل لهم حتى يأتوا بعشر سور مثله مفتريات مثله ) بمعنى أمثاله حملا على كل واحد من تلك السور ، ولا يبعد أيضا أن يكون المراد هو المجموع ؛ لأن مجموع السور العشرة شيء واحد .
المسألة الثانية : قال : هذه السورة التي وقع بها هذا التحدي معينة ، وهي سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال والتوبة ويونس وهود عليهما السلام . وقوله : ( ابن عباس فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ) إشارة إلى السور المتقدمة على هذه السورة ، وهذا فيه إشكال ؛ لأن هذه السورة مكية ، وبعض السور المتقدمة على هذه السورة مدنية ، فكيف يمكن أن يكون المراد من هذه العشر سور التي ما نزلت عند هذا الكلام ؟ فالأولى أن يقال : التحدي وقع بمطلق السور التي يظهر فيها قوة تركيب الكلام وتأليفه .
واعلم أن ، وهو مثل أن يقول الرجل لغيره : اكتب عشرة أسطر مثلما أكتب ، فإذا ظهر عجزه عنه قال : قد اقتصرت منها على سطر واحد مثله . التحدي بعشر سور لا بد وأن يكون سابقا على التحدي بسورة واحدة
إذا عرفت هذا فنقول : التحدي بالسورة الواحدة ورد في سورة البقرة ، وفي سورة يونس كما تقدم ، أما تقدم هذه السورة على سورة البقرة فظاهر ؛ لأن هذه السورة مكية ، وسورة البقرة مدنية ، وأما في سورة يونس فالإشكال زائل أيضا ؛ لأن كل واحدة من هاتين السورتين مكية ، والدليل الذي ذكرناه يقتضي أن تكون سورة هود متقدمة في النزول على سورة يونس حتى يستقيم الكلام الذي ذكرناه .
المسألة الثالثة : اختلف الناس في ، فقال بعضهم : هو الفصاحة ، وقال بعضهم : هو الأسلوب ، وقال ثالث : هو عدم التناقض ، وقال رابع : هو اشتماله على العلوم الكثيرة ، وقال خامس : هو الصرف ، وقال سادس : هو اشتماله على الإخبار عن الغيوب ، والمختار عندي وعند الأكثرين أنه معجز بسبب الفصاحة ، واحتجوا على صحة قولهم بهذه الآية ؛ لأنه لو كان وجه الإعجاز هو كثرة العلوم أو الإخبار عن الغيوب أو عدم التناقض لم يكن لقوله : ( الوجه الذي لأجله كان القرآن معجزا مفتريات ) معنى ، أما إذا كان وجه الإعجاز هو الفصاحة صح ذلك ؛ لأن فصاحة الفصيح تظهر بالكلام ، سواء كان الكلام صدقا أو كذبا ، وأيضا لو كان الوجه في كونه معجزا هو الصرف لكان دلالة الكلام الركيك النازل في الفصاحة على هذا المطلوب أوكد من دلالة الكلام العالي في الفصاحة . ثم إنه تعالى لما قرر وجه التحدي قال : ( وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ) ، والمراد إن كنتم صادقين في ادعاء كونه مفترى كما قال : ( أم يقولون افتراه ) .
واعلم أن هذا الكلام يدل على أنه ؛ وذلك لأنه تعالى أورد في إثبات نبوة لا بد في إثبات الدين من تقرير الدلائل والبراهين محمد عليه السلام هذا الدليل وهذه الحجة ، ولولا أن الدين لا يتم إلا بالدليل لم يكن في ذكره فائدة .