( ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين )
( القصة الثانية ، [ إبراهيم عليه السلام ) قصة]
قوله تعالى : ( ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين ) .
اعلم أن قوله تعالى : ( ولقد آتينا إبراهيم رشده ) فيه مسائل :
المسألة الأولى : في الرشد قولان : الأول : أنه النبوة واحتجوا عليه بقوله : ( وكنا به عالمين ) قالوا : لأنه تعالى إنما ويجتنب ما لا يليق بها ويحترز عما ينفر قومه من القبول . والثاني : أنه الاهتداء لوجوه الصلاح في الدين والدنيا قال تعالى : ( يخص بالنبوة من يعلم من حاله أنه في المستقبل يقوم بحقها فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ) [النساء : 6] ، وفيه قول ثالث : وهو أن تدخل النبوة والاهتداء تحت الرشد إذ لا يجوز أن يبعث نبي إلا وقد دله الله تعالى على ذاته وصفاته ، ودله أيضا على مصالح نفسه ومصالح قومه وكل ذلك من الرشد .
[ ص: 156 ] المسألة الثانية : احتج أصحابنا في أن بهذه الآية ، فإنه لو كان الرشد هو التوفيق والبيان فقد فعل الله تعالى ذلك بالكفار ، فيجب أن يكون قد آتاهم رشدهم . أجاب الإيمان مخلوق لله تعالى الكعبي بأن هذا يقال فيمن قبل لا فيمن رد ، وذلك كمن أعطى المال لولدين فقبله أحدهما وثمره ورده الآخر أو أخذه ثم ضيعه . فيقال : أغنى فلان ابنه فيمن أثمر المال ، ولا يقال مثله فيمن ضيع ، والجواب عنه : هذا الجواب لا يتم إلا إذا جعلنا قبوله جزءا من مسمى الرشد وذلك باطل ، لأن المسمى إذا كان مركبا من جزأين ولا يكون أحدهما مقدور الفاعل لم يجز إضافة ذلك المسمى إلى ذلك الفاعل فكان يلزم أن لا يجوز إضافة الرشد إلى الله تعالى بالمفعولية لكن النص وهو قوله : ( ولقد آتينا إبراهيم رشده ) صريح أن ذلك الرشد إنما حصل من الله تعالى فبطل ما قالوه .
المسألة الثالثة : قال صاحب " الكشاف " : قرئ رشده كالعدم والعدم ، ومعنى إضافته إليه أنه رشد مثله وأنه رشد له شأن .
أما قوله تعالى : ( من قبل ) ففيه وجوه : أحدها : آتينا إبراهيم نبوته واهتداءه من قبل موسى عليه السلام عن ابن عباس . وثانيها : في صغره قبل بلوغه حين كان في السرب وظهرت له الكواكب فاستدل بها . وهذا على قول من حمل الرشد على الاهتداء وإلا لزمه أن يحكم بنبوته عليه السلام قبل البلوغ عن مقاتل . وثالثها : يعني حين كان في صلب وابن جرير آدم عليه السلام حين أخذ الله ميثاق النبيين عن رضي الله عنهما في رواية ابن عباس الضحاك .
أما قوله تعالى : ( وكنا به عالمين ) فالمراد أنه سبحانه علم منه أحوالا بديعة وأسرارا عجيبة وصفات قد رضيها حتى أهله لأن يكون خليلا له ، وهذا كقولك في رجل كبير : أنا عالم بفلان فإن هذا الكلام في الدلالة على تعظيمه أدل مما إذا شرحت جلال كماله .
أما قوله تعالى : ( إذ قال لأبيه وقومه ) فقال صاحب " الكشاف " : إذ إما أن تتعلق بآتينا أو برشده أو بمحذوف أي اذكر من أوقات رشده هذا الوقت .
أما قوله : ( ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : التمثال اسم للشيء المصنوع مشبها بخلق من خلق الله تعالى ، وأصله من مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به واسم ذلك الممثل تمثال .
المسألة الثانية : أن القوم كانوا عباد أصنام على صور مخصوصة كصورة الإنسان أو غيره ، فجعل عليه السلام هذا القول منه ابتداء كلامه لينظر فيما عساهم يوردونه من شبهة فيبطلها عليهم .
المسألة الثالثة : قال صاحب " الكشاف " : لم ينو للعاكفين مفعولا وأجراه مجرى ما لا يتعدى ، كقولك فاعلون للعكوف أو واقفون لها ، قال : فإن قلت هلا قيل عليها عاكفون كقوله : ( يعكفون على أصنام لهم ) [ الأعراف : 138] قلت : لو قصد التعدية لعداه بصلته التي هي على .
أما قوله : ( قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين ) فاعلم أن القوم لم يجدوا في جوابه إلا طريقة التقليد الذي يوجب مزيد التنكير لأنهم إذا كانوا على خطأ من أمرهم لم يعصمهم من هذا الخطأ أن آباءهم أيضا سلكوا [ ص: 157 ] هذا الطريق ، فلا جرم أجابهم إبراهيم عليه السلام بقوله : ( لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين ) فبين أن ، فلما حقق عليه السلام ذلك عليهم ولم يجدوا من كلامه مخلصا ، ورأوه ثابتا على الإنكار ، قوي القلب فيه وكانوا يستبعدون أن يجري مثل هذا الإنكار عليهم مع كثرتهم وطول العهد بمذهبهم ، فعند ذلك قالوا له : ( الباطل لا يصير حقا بسبب كثرة المتمسكين به أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين ) موهمين بهذا الكلام أنه يبعد أن يقدم على الإنكار عليهم ، جادا في ذلك ، فعنده عدل - صلى الله عليه وسلم - إلى بيان التوحيد .