المسألة الثانية : اتفق علماء البيان على أن هذه الآية في الإيجاز مع جمع المعاني باللغة بالغة إلى أعلى الدرجات ، وذلك ؛ لأن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة ، كقولهم : قتل البعض إحياء للجميع ، وقول آخرين : أكثروا القتل ليقل القتل ، وأجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم : القتل أنفى للقتل ، ثم إن لفظ القرآن أفصح من هذا ، وبيان التفاوت من وجوه :
أحدها : أن ولكم في القصاص حياة ) أخصر من الكل ؛ لأن قوله : ( ولكم ) لا يدخل في هذا الباب ، إذ لا بد في الجميع من تقدير ذلك ؛ لأن قول القائل : قتل البعض إحياء للجميع لا بد فيه من تقدير مثله ، وكذلك في قولهم : القتل أنفى للقتل ، فإذا تأملت علمت أن قوله : ( قوله : ( في القصاص حياة ) أشد اختصارا من قولهم : القتل أنفى للقتل .
وثانيها : أن قولهم : القتل أنفى للقتل ظاهره يقتضي كون الشيء سببا لانتفاء نفسه وهو محال ، وقوله : ( في القصاص حياة ) ليس كذلك ؛ لأن المذكور هو نوع من القتل وهو القصاص ، ثم ما جعله سببا لمطلق الحياة لأنه ذكر الحياة منكرة ، بل جعله سببا لنوع من أنواع الحياة .
وثالثها : أن قولهم : القتل أنفى للقتل ، فيه تكرار للفظ القتل ، وليس قوله : ( في القصاص حياة ) كذلك .
ورابعها : أن قول القائل : القتل أنفى للقتل ، لا يفيد إلا الردع عن القتل ، وقوله : ( في القصاص حياة ) يفيد الردع عن القتل وعن الجرح وغيرهما فهو أجمع للفوائد .
وخامسها : أن نفي القتل مطلوب تبعا من حيث إنه يتضمن حصول الحياة ، وأما الآية فإنها دالة على حصول الحياة وهو مقصود أصلي ، فكان هذا أولى .
وسادسها : أن القتل ظلما قتل ، مع أنه لا يكون نافيا للقتل بل هو سبب لزيادة القتل ، إنما النافي لوقوع القتل هو القتل المخصوص وهو القصاص ، فظاهر قولهم باطل ، أما الآية فهي صحيحة ظاهرا وتقديرا ، فظهر التفاوت بين الآية وبين كلام العرب .