وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا
المعنى: واذكر إذ قلنا، وكذلك "إذ" في الآية المتقدمة هي منصوبة بفعل مضمر، وقد تقدم في غير موضع ذكر خلق آدم عليه السلام وأمر السجود له. واختلف في قوله: إلا إبليس فقيل: هو استثناء منقطع; لأن "إبليس" لم يكن من الملائكة، وقيل: هو متصل; لأن إبليس من الملائكة. وقوله: "طينا" يصح أن يكون تمييزا، ويصح أن يكون حالا. وقاس إبليس في هذه النازلة فأخطأ; وذلك أنه رأى الفضيلة لنفسه من حيث رأى النار أفضل من الطين، وجهل أن الفضائل في الأشياء إنما تكون حيث خصصها الله تبارك وتعالى، ولا ينظر إلى أصولها.
وذكر عن الطبري رضي الله عنهما أن إبليس هو الذي أمره الله تعالى، فأخذ من أديم الأرض طينة، فخلق ابن عباس آدم ، والمشهور أنه ملك الموت. وكفر إبليس في أنه جهل صفة العدل من الله تعالى حين لحقته الأنفة والكبر، وكان أصل ذلك الحسد ولذلك قيل: "أول ما عصي الله تعالى بالحسد"، وظهر ذلك من إبليس من قوله: قال أرأيتك هذا الذي كرمت و أنا خير منه حسبما ذكر الله تعالى في آية أخرى، فهذا هو النص بأن فعلك غير مستقيم.
والكاف في قوله: "أرأيتك" هي كاف خطاب ومبالغة في التنبيه، لا موضع لها من الإعراب; فهي زائدة. ومعنى "أرأيت" كأتأملت، ونحوه: كأن المخاطب بها ينبه المخاطب ليستجمع لما ينصه عليه بعد. وقال : هي بمعنى أخبرني، ومثل بقوله: أرأيتك زيدا أيؤمن هو؟ سيبويه
[ ص: 507 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وقاله في آياتنا، ولم يمثل، وقول الزجاج صحيح حيث يكون بعدها استفهام كمثاله، وما في هذه فهي كما قلت، وليس التي ذكره سيبويه رحمه الله. سيبويه
وقرأ : "أخرتني" بالياء في الوصل والوقف، وهذا هو الأصل، وليس هذا الموضع كالقافية التي يحسن فيها الحذف، كمثل قول ابن كثير الأعشى :
فهل يمنعني ارتيادي البلا ... د من حذر الموت أن يأتين؟
وقرأ ، نافع بالياء في الوصل وبحذفها في الوقف، وقرأ وأبو عمرو ، ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة : "أخرتن" بحذف الياء في الوصل والوقف، وهذا تشبيه بياء "قاض" ونحوه، لكونها ياء متطرفة قبلها كسرة، ومنه قوله تعالى: والكسائي يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه .
وقوله: "لأحتنكن" معناه: لأميلن ولأجرن، وهو مأخوذ من تحنيك الدابة، وهو أن يشد على حنكها بحبل أو غيره فتنقاد، والسنة تحتنك المال، أي: تجتره، ومنه قول الشاعر:
نشكو إليك سنة قد أجحفت ... جهدا إلى جهد بنا فأضعفت
واحتنكت أموالنا وجنفت
[ ص: 508 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ومن هذا الشعر قال في "لأحتنكن": لأستأصلن، وعبر الطبري رضي الله عنهما في ذلك بـ "لأستولين"، وقال ابن عباس : لأضلن. ابن زيد
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا بدل اللفظ لا تفسير.
وحكم إبليس بهذا الحكم على ذرية آدم عليه السلام من حيث رأى الخلقة مجوفة مختلفة الأجزاء، وما اقترن بها من الشهوات والعوارض كالغضب ونحوه، ثم استثنى القليل لعلمه أنه لا بد أن يكون في ذريته من يصلب في طاعة الله تعالى.
وقوله تعالى: "اذهب" وما بعده من الأوامر هو صيغة افعل، من التهديد، كقوله تعالى: اعملوا ما شئتم و"تبعك" معناه: في طريق الكفر الذي تدعو إليه. فالآية في الكفار وفيمن ينفذ عليه الوعيد من العصاة. وقوله تعالى: "جزاء" مصدر في موضع الحال، و "الموفور": المكتمل.
و"استفزز" معناه: استخف واخدع حتى يقع في إرادتك، تقول: استفزني فلان في كذا، إذا خدعك حتى تقع في أمر أراده، ومن الخفة قيل لولد البقرة: فز، ومنه قول زهير:
كما استغاث بسيء فز غيطلة ... خاف العيون فلم ينظر به الحشك
[ ص: 509 ] و "الصوت" هنا قيل: هو الغناء والمزامير والملاهي; لأنها أصوات كلها مختصة بالمعاصي، فهي مضافة إلى الشيطان، قاله ، وقيل: معناه: بدعائك إياهم إلى طاعتك، قال مجاهد رضي الله عنهما: صوته دعاء كل عاص إلى معصية الله تعالى. ابن عباس
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والصواب أن يكون "الصوت" يعم جميع ذلك.
وقوله تعالى: "وأجلب" أي: هول، والجلبة: الصوت الكثير المختلط الهائل، وقرأ : "واجلب" بوصل الألف وضم اللام. وقوله سبحانه: الحسن بخيلك ورجلك قيل: هذا مجاز واستعارة بمعنى: اسع سعيك وابلغ جهدك، وقيل: معناه أن له من الجن خيلا ورجلا، قاله ، وقيل: المراد فرسان الناس ورجالتهم المتصرفون في الباطل، فإنهم كلهم أعوان لإبليس على غيرهم، قاله قتادة . وقرأ الجمهور: "ورجلك" بسكون الجيم، وهو جمع راجل، كتاجر وتجر، وصاحب وصحب، وشارب وشرب، وقرأ مجاهد حفص عن : "ورجلك" بكسر الجيم، على وزن فعل، وكذلك قرأ عاصم ، الحسن -بخلاف عنه- وهي صفة، تقول: فلان يمشي رجلا، أي غير راكب، ومنه قول الشاعر: وأبو عمرو
أما أقاتل عن ديني على فرسي ... ولا كذا رجلا إلا بأصحاب؟
[ ص: 510 ] وقرأ قتادة : "بخيلك ورجالك". وعكرمة
وقوله: وشاركهم في الأموال عام لكل معصية يصنعها الناس بالمال، فإن ذلك المصرف في المعصية هو خط إبليس، فمن ذلك البحائر وشبهها، ومن ذلك مهر البغي وثمن الخمر وحلوان الكاهن والربا وغير ذلك مما يوجد في الناس دأبا، وقوله: "والأولاد" عام لكل ما يصنع في أمر الذرية من المعاصي، فمن ذلك الإيلاد بالزنا، ومن ذلك تسميتهم عبد شمس، وعبد الحارث، وأبا الكويفر، وكل اسم مكروه، ومن ذلك الوأد الذي كانت العرب تفعله، ومن ذلك صبغهم في أديان الكفر، وغير هذا، وما أدخل من وطء الجن وأنه يحبل المرأة من الإنس فضعيف كله. النقاش
وقوله تعالى: "وعدهم" أي: منهم بما لا يتم لهم، وبأنهم غير مبعوثين، فهذا مشاركة في النفوس، ثم أخبر الله تعالى أنه إنما يعدهم غرورا منه; لأنه لا يغني عنهم شيئا.
وقوله تعالى: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان قول من الله تبارك وتعالى لإبليس، وقوله: "عبادي" يريد المؤمنين في الكفر، والمتقين في المعاصي، وخصهم بأنهم العباد، وإن كان اسما عاما لجميع الخلق، من حيث قصد تشريفهم والتنويه بهم، كما يقول رجل لأحد بنيه إذا رأى منه ما يحب: "هذا ابني"، على معنى التنبيه منه والتشريف له، ومنه "هذا خالي، فليرني امرؤ خاله-". لسعد بن أبي وقاص: و "السلطان": الملكية والتغلب، وتفسيره هنا بالحجة قلق. ثم قال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: وكفى بربك يا قول النبي صلى الله عليه وسلم محمد حافظا للمؤمنين وقيما على هدايتهم.