وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا
الضمير في قوله تعالى: "أنزلناه" عائد على القرآن المذكور في قوله سبحانه: ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ، ويجوز أن يكون الكلام آنفا، وأشار [ ص: 555 ] بالضمير إلى القرآن على ذكر متقدم لشهرته، كما قال تعالى: حتى توارت بالحجاب ، وهذا كثير.
قال : معناه: بالواجب الذي هو المصلحة والسداد للناس بالحق في نفسه، وقوله سبحانه: الزهراوي وبالحق نزل يريد: بالحق في أوامره ونواهيه وأخباره، فبهذا التأويل يكون تكرار اللفظ لمعنى غير الأول، وذهب إلى أنهما بمعنى واحد، أي: بأخباره وأوامره، وبذلك نزل. الطبري
وقوله تعالى: "وقرآنا". مذهب أن نصبه بفعل مضمر يفسره الظاهر بعد، أي: وفرقنا قرآنا، ويصح أن يكون معطوفا على الكاف في "أرسلناك" ، من حيث كان إرسال هذا وإنزال هذا لمعنى واحد. سيبويه
وقرأ جمهور الناس: "فرقناه" بتخفيف الراء، ومعناه: بيناه وأوضحناه وجعلناه فرقانا. وقرأ ، ابن عباس ، وقتادة رضي الله عنه، وعلي بن أبي طالب ، وابن مسعود وأبي بن كعب، ، والشعبي بخلاف - والحسن وحميد، وعمرو بن فائد: "فرقناه" بتشديد الراء، إلا أن في قراءة ، ابن مسعود : "فرقناه عليه لتقرأه"، أي: أنزلناه شيئا بعد شيء، لا جملة واحدة، ويتناسق هذا المعنى مع قوله تعالى: وأبي بن كعب لتقرأه على الناس على مكث ، وهذا كان مما أراد الله من نزوله بأسباب تقع في الأرض من أقوال وأفعال في أزمان محدودة معينة.
واختلف أهل العلم، في فقيل: في خمس وعشرين سنة، وقال كم القرآن من المدة؟ رضي الله عنهما: في ثلاث وعشرين، وقال ابن عباس : في عشرين. قتادة
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا بحسب الخلاف في سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الوحي جاء وهو ابن أربعين سنة، وتم بموته. وحكى عن الطبري أنه قال: نزل القرآن في ثماني عشرة سنة. الحسن البصري
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا قول مختل: لا يصح عن ، والله أعلم. الحسن
[ ص: 556 ] وتأول فرقة قوله تعالى: على مكث ، أي: على ترسل في التلاوة وترتيل، هذا قول مجاهد ، وابن عباس ، وابن جريج والتأويل الآخر، أي: على مكث وتطاول في المدة شيئا بعد شيء. وقوله تعالى: وابن زيد. ونزلناه تنزيلا مبالغة وتأكيد بالمصدر للمعنى المتقدم ذكره في ألفاظ الآية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وأجمع القراء على ضم الميم من "مكث"، ويقال: "مكث" و"مكث" بضم الميم، ومكث بكسرها.
وقوله تعالى: قل آمنوا به الآية. هذه آية تحقير للكفار، وفي ضمنه ضرب من التوعد، والمعنى: إنكم لستم بحجة، فسواء علينا آمنتم أم كفرتم، وإنما ضرر ذلك على أنفسكم، وإنما الحجة أهل العلم من قبله، هم بالصفة المذكورة.
واختلف الناس في المراد بـ الذين أوتوا العلم من قبله -فقالت فرقة: هم مؤمنو أهل الكتاب. وقالت فرقة: هم ورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل، ومن جرى مجراهما، وقيل: إن جماعة من أهل الكتاب جلسوا وهم على دينهم فتذاكروا أمر النبي عليه الصلاة والسلام وما أنزل عليه، وقرئ عليهم منه شيء فخشعوا وسبحوا لله وسجدوا له، وقالوا: هذا وقت نبوة المذكور في التوراة، وهذه صفته، ووعد الله به واقع لا محالة، وجنحوا إلى الإسلام هذا الجنوح، فنزلت الآية فيهم، وقالت فرقة: المراد بـ الذين أوتوا العلم من قبله محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في "قبله" عائد على القرآن، حسب الضمير في "به"، ويبين ذلك قوله: إذا يتلى عليهم . وقيل: الضميران لمحمد صلى الله عليه وسلم، واستأنف ذكر القرآن في قوله: إذا يتلى عليهم .
وقوله تعالى: يخرون للأذقان ، أي: لناحيتها، وهذا كما تقول: ساقط لليد والفم، أي: لناحيتهما وعليهما، قال رضي الله عنهما: المعنى: للوجوه، وقال ابن عباس : للحى. الحسن
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والأذقان أسافل الوجوه حيث يجتمع اللحيان، وهي أقرب ما في رأس الإنسان إلى الأرض لا سيما عند سجوده، وقال الشاعر:
[ ص: 557 ]
فخروا لأذقان الوجوه تنوشهم ... سباع من الطير العوادي وتنتف
و"إن" في قوله تعالى: إن كان وعد ربنا هي عند المخففة من الثقيلة. واللام بعدها لام التوكيد، وهي عند سيبويه النافية واللام بمعنى: إلا. ويتوجه في هذه الآية معنى آخر، وهو أن يكون قوله: الفراء قل آمنوا به أو لا تؤمنوا مخلصا للوعيد دون التحقير. والمعنى: فسترون ما تجازون به، ثم ضرب لهم المثل -على جهة التقريع- بمن تقدم من أهل الكتاب، أي: إن الناس لم يكونوا كما أنتم في الكفر، بل كان الذين أوتوا التوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزلة في الجملة إذا يتلى عليهم ما نزل عليهم خشعوا وآمنوا.