الوجه السادس من وذلك أن القصة الواحدة ترد في سور شتى وفواصل مختلفة بأن يأتي في موضع واحد مقدما وفي آخر مؤخرا، كقوله في البقرة: وجوه إعجازه (مشتبهات آياته) وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة . البقرة: 58. وفي الأعراف: وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا . الأعراف: 161. وفي البقرة: وما أهل به لغير الله وسائر القرآن: " وما أهل لغير الله به " . وفي موضع بزيادة وفي موضع بدونها، نحو: سواء عليهم أأنذرتهم . وفي يس: وسواء . يس: 10، وفي البقرة: ويكون الدين لله البقرة: 163. وفي الأنفال: كله لله الأنفال: 39. وفي موضع معرفا وفي آخر منكرا. أو مفردا وفي آخر جمعا. أو بحرف وفي آخر بحرف آخر. أو مدغما أو مفككا. وهذا النوع يتداخل مع نوع المناسبات. وقد أفرده بالتصنيف جماعة أولهم فيما أحسب الكسائي، ونظمه السخاوي، وألف في توجيهه الكرماني كتابه "البرهان في متشابه القرآن". وأحسن منه درة التنزيل وغرة التأويل" لأبي عبد الله الرازي . وأحسن منها كلها "ملاك التأويل في متشابه التنزيل" لأبي جعفر بن الزبير. وللقاضي بدر الدين بن جماعة في ذلك كتاب لطيف سماه "كشف المعاني عن متشابه المثاني". وفي كتابي أسرار التنزيل المسمى [ ص: 67 ] قطف الأزهار في كشف الأسرار من ذلك الجم الغفير، لكنا "نشير هنا إلى توجيه أمثلة منها تتميما للفائدة: قوله في البقرة: هدى للمتقين البقرة: 2 ، لأنه لما ذكر هنا جموع الإيمان ناسب المتقين، ولما ذكر في لقمان الرحمة ناسبه: هدى ورحمة للمحسنين. وإنما ذكر في البقرة: وكلا . البقرة: 35، بالواو، وفي الأعراف: فكلا . الأعراف: 19، - بالفاء، لأن المراد بالسكنى في البقرة الإقامة. وفي الأعراف اتخاذ المسكن، فلما ناسب القول إليه تعالى: وقلنا يا آدم البقرة: 35، ناسب زيادة الإكرام بالواو الدالة على الجمع بين السكنى والأكل، ولذا قال فيه رغدا، وقال: حيث شئتما، لأنه أعلم. وأتى في الأعراف: يا آدم، فأتى بالفاء الدالة على ترتيب الأكل على السكنى المأمور باتخاذها، لأن الأكل بعد الاتخاذ، ومن حيث لا يعطي عموم " حيث شئتما ". قوله في البقرة: ولا يقبل منها شفاعة ، وقال بعد ذلك: ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ، ففيه تقديم وتأخير، والتعبير بقبول الشفاعة تارة وبالنفي أخرى، وذكر في حكمته أن الضمير في منها راجع في الأولى إلى النفس الأولى، وفي الثانية إلى النفس الثانية، فبين في الأولى أن النفس الشافعة الجازية عن غيرها لا تقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل، وقدمت الشفاعة لأن الشافع يقدم الشفاعة على بذل العدل عنها. وبين في الثانية أن النفس المطلوبة بجرمها لا يقبل منها عدل عن نفسها، ولا تنفعها شفاعة شافع فيها، وقدم العدل لأن الحاجة إلى الشفاعة إنما تكون عند رده، ولذلك قال في الأولى: لا يقبل منها شفاعة، وفي الثانية: ولا تنفعها شفاعة، لأن الشفاعة إنما تقبل من الشافع، وإنما تنفع المشفوع له. قوله تعالى في البقرة: يذبحون أبناءكم . وفي إبراهيم: ويذبحون ، بالواو، لأن الأولى من كلامه تعالى لهم فلم يعدد [ ص: 68 ] عليهم المحن تكريما في الخطاب. والثانية من كلام موسى فعددها في الأعراف: يقتلون ، وهو من بديع الألفاظ المسمى بالتفنن. قوله تعالى: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية ، وفي آية الأعراف اختلاف ألفاظ، ونكتته أن آية البقرة في معرض ذكر النعم عليهم حيث قال: يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم . فناسب نسبة القول إليه تعالى، وناسب قوله رغدا، لأن النعم به أتم، وناسب تقديم: وادخلوا الباب سجدا، وناسب خطايا، لأنه جمع كثرة، وناسب الواو في: وسنزيد المحسنين لدلالتها على الجمع بينهما، وناسب الفاء في فكلوا، لأن الأكل قريب من الدخول. وآية الأعراف افتتحت بما به توبيخهم، وهو قوله: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة . الأعراف: 138. ثم اتخاذهم العجل، فناسب ذلك: وإذا قيل لهم، وناسب ترك " رغدا " والسكنى تجامع الأكل فقال: وكلوا، وناسب تقديم مغفرة الخطايا، وترك الواو في سنزيد. ولما كان في الأعراف تبعيض الهادين بقوله: ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق ، ناسب تبعيض الظالمين بقوله: الذين ظلموا منهم، ولم يتقدم في البقرة إشارة إلى سلامة غير الذين ظلموا لتصريحه بالإنزال على المتصفين بالظلم. والإرسال أشد وقعا من الإنزال، فناسب سياق ذكر النعمة البقرة ذلك، وختم آية البقرة بـ يفسقون. ولا يلزم منه الظلم، والظلم يلزم منه الفسق، فناسب كل لفظ منها سياقه. كذا في البقرة " فانفجرت " وفي الأعراف: فانبجست لأن الانفجار أبلغ في كثرة الماء، فناسب ذكر النعم التعبير به. قوله تعالى في البقرة: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة وفي آل عمران معدودات . قال ابن جماعة: لأن قائلي ذلك فرقتان من اليهود: إحداهما قالت إنما نعذب بالنار سبعة أيام عدد أيام الدنيا. والأخرى قالت: إنما نعذب أربعين يوما، عدة [ ص: 69 ] أيام عبادة آبائهم العجل، فآية البقرة تحتمل قصد الفرقة الثانية حيث عبر بجمع الكثرة، وآل عمران الفرقة الأولى حيث أتى بجمع القلة. وقال أبو عبد الله الرازي: إنه من باب التفنن. قوله في البقرة: إن هدى الله هو الهدى . وفي آل عمران: إن الهدى هدى الله ، لأن الهدى في البقرة المراد به تحويل القبلة، وفي آل عمران المراد به الدين، لتقدم قوله: " لمن تبع دينكم"، ومعناه دين الإسلام. قوله تعالى في البقرة: رب اجعل هذا بلدا آمنا . وفي إبراهيم عرفه، لأن الأول دعا به قبل مصيره بلدا عند ترك هاجر وإسماعيل به وهو واد، فدعا بأن يصير بلدا. والثاني دعا به بعد عوده وسكنى جرهم به ومصيره بلدا فدعا بأمنه. وقيل: لأن النكرة إذا تكررت صارت معرفة. وقيل تقديره في البقرة: هذا البلد بلدا آمنا، فحذف البلد اكتفاء بالإشارة، فتكون الآيتان سواء، وهذا يقتضي أنه دعا بهذا الدعاء مرتين. والظاهر أنه مرة حكى لفظه فيها على وجهين. قوله تعالى: ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم البقرة: 120، فجعل الذي مكان قوله فما بعد: " ما " ، وزاد " من " البقرة: 145، والرعد 37، لأن العلم في الآية الأولى علم بالكمال الذي ليس وراءه علم، لأن معناه بعد الذي جاءك من العلم بالله وصفاته، فكان لفظ الذي أليق به من لفظ " ما "، لأنه في التعريف أبلغ وفي الوصف أقعد، لأن " الذي " تعرفه صلته ولا يتنكر قط، ويتقدمه أسماء الإشارة، نحو قوله: أمن هذا الذي هو جند لكم ، أمن هذا الذي يرزقكم . فيكتنفه بيانان: الإشارة والصلة ويلزمه الألف واللام، ويثنى ويجمع، وليس لـ " ما " شيء من ذلك، لأنه يتنكر مرة ويتعرف أخرى، ولا يقع وصفا لأسماء الإشارة، ولا يدخله الألف واللام، ولا يثنى ولا يجمع. [ ص: 70 ] وخص الثاني بما لأن المعنى من بعد ما جاءك من العلم بأن قبلة الله هي الكعبة، وذلك قليل من كثير من العلم. وزيد معه " من " التي هي لابتداء الغاية، لأن تقديره من الوقت الذي جاءك العلم فيه بالكعبة، لأن القبلة الأولى نسخت بهذه الآيات، وليس الأول موقتا بوقت. وقال في سورة الرعد: ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ، فعبر بما، ولم يزد من هنا لأن العلم ها هنا هو الحكم العرفي، أي القرآن، فكان بعضا من الأول ولم يزد من لأنه غير موقت. وقريب من معنى القبلة ما في آل عمران: من بعد ما جاءك من العلم . قوله تعالى: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم ، وفي آل عمران: وما أنزل علينا . لأن الأولى خطاب للمسلمين، والثانية خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: قل آمنا بالله ، و"إلى" ينتهى به من كل جهة، و"على" لا ينتهى به إلا من جهة واحدة وهي العلو. والفرقان يأتي المسلمين من كل جهة يأتي مبلغه إياهم. وإنما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهة العلو خاصة، فناسب قوله: " علينا " ، ولهذا أكثر ما جاء في جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعلى، وأكثر ما جاء في جهة الأمة بإلى. قوله تعالى في البقرة: وما أوتي النبيون من ربهم . وحذف ما في آل عمران لأنه تقدم فيها ذكر ذلك: قوله تعالى: لما آتيتكم . قوله: قد نرى تقلب وجهك في السماء . إنما كرر هذه الآيات ثلاث مرات، لأن الأولى لنسخ القبلة، والثانية للسبب، وهو قوله: وإنه للحق من ربك. والثالثة للعلة وهي قوله: لئلا يكون للناس عليكم حجة . وقيل الأولى في مسجد المدينة، والثانية خارج المسجد، والثالثة خارج البلد. [ ص: 71 ] وقيل في الآية خروجان: خروج إلى مكان ترى فيه الكعبة، وخروج إلى مكان لا ترى أي الحالتين فيه سواء. قوله تعالى: إلا الذين تابوا وأصلحوا . البقرة: 160. إنما لم يزد هنا " من بعد ذلك " كما في غيرها. لأن قبله من بعد ما بيناه للناس في الكتاب، فلو أعاده لالتبس. قوله تعالى: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ، لأنه ذكر في البقرة الاتباع منفيا بما هو دون العلم لتكون كل دعوى منفيا بما يلائمه. ولما ذكر في المائدة ادعاءهم النهاية بلفظ "حسبنا" نفى ذلك بالعلم الذي هو أبلغ درجة من العقل، ولهذا جاز وصفه تعالى بالعلم، ولم يجز وصفه بالعقل، ولكن لما كان دعواهم في المائدة أبلغ لقولهم: حسبنا ما وجدنا ، وكذلك في سورة لقمان، لأن وجدت يتعدى مرة إلى مفعول واحد، تقول: وجدت الضالة، ومرة إلى مفعولين: وجدت زيدا جالسا، فأتى في آية البقرة بألفيت، لأنه يتعدى إلى مفعولين، تقول ألفيت زيدا قائما، وأتى في المائدة بما هو أعم. قوله تعالى: وما أهل به لغير الله البقرة: 173. فقدم ضمير المجرور في البقرة، وأخره في المائدة، والأنعام، والنحل، لأن تقديم الباء الأصل بأنه يجري مجرى الألف والتشديد في التعدي، فكان كحرف من الفعل، وكان الموضع الأول أولى بما هو الأصل، ليعم ما يقتضيه اللفظ. وأما ما عدا هذه السورة فأخر به لأنه قدم ما هو المستنكر وهو الذبح لغير الله، وتقدم ما هو بالغرض أولى، ولهذا جاز تقديم المفعول على الفاعل، والحال على ذي الحال، والظرف على العامل فيه، إذا كان أكثر الغرض في الإخبار، وزاد في هذه السورة: فلا إثم عليه، وفي السور الثلاث تضمينا، لأن قوله: " غفور رحيم " يدل على أنه لا إثم عليه. وإنما ختم في الأنعام بذكر الرب، لأنه تكرر فيها مرات. فكان لفظ الرب بها أليق. قوله تعالى: تلك حدود الله فلا تقربوها . البقرة: 187. وقال بعد [ ص: 72 ] ذلك: فلا تعتدوها ، لأن الأولى وردت بعد نواه، فناسب النهي عن قربانها، والثانية بعد أوامر، فناسب النهي عن تعديها وتجاوزها بأن يوقف عندها. قوله تعالى: نزل عليك الكتاب آل عمران: 3. وقال: وأنزل التوراة والإنجيل آل عمران: 3 ، لأن الكتاب أنزل منجما، فناسب الإتيان بنزل الدالة على التكرير، بخلافهما فإنهما أنزلا دفعة واحدة. قوله تعالى: ولا تقتلوا أولادكم من إملاق . وفي الإسراء: خشية إملاق ، لأن الأولى خطاب للفقراء المقلين، أي لا تقتلوهم من فقركم، نحن نرزقكم ما يزول به إملاقكم، ثم قال: وإياهم. والثانية خطاب للأغنياء، أي خشية فقر يحصل لكم بسببهم، ولهذا حسن: نحن نرزقهم وإياكم. قوله تعالى: فاستعذ بالله إنه سميع عليم الأعراف: 200. وفي فصلت: السميع العليم فصلت: 36 ، لأنها نزلت ثانيا فحسن التعريف، أي هو السميع العليم الذي تقدم ذكره عند نزوغ الشيطان. قوله تعالى: المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض . وقال في المؤمنين: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ، وفي الكفار: والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ، لأن المنافقين ليسوا متناصرين على دين معين وشريعة ظاهرة، وكان بعضهم يهودا وبعضهم مشركين، فقال: من بعض، أي في الشك والنفاق. وكان المؤمنون متناصرين على دين الإسلام. وكذلك الكفار المعلنون بالكفر كلهم أعوان بعضهم ومجتمعون على التناصر بخلاف المنافقين، كما قال تعالى: تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى . فهذه أمثلة يستضاء بها، ويأتي منها كثير في وجه التقديم والتأخير، وتقدم في نوع الفواصل، وهذا بحر لا ساحل له، فلنرجع إلى المقصود.