وكل المخلوقات منسوبة إلى الله تعالى ولكن نسبته أشرف من نسبة سائر أعضاء البدن فلله الخلق والأمر جميعا والأمر أعلى من الخلق وهذه الجوهرة النفيسة الحاملة لأمانة الله تعالى المتقدمة بهذه الرتبة على السموات والأرضين والجبال إذ أبين أن يحملنها وأشفقن منها من عالم الأمر ولا يفهم من هذا أنه تعريض بقدمها فإن القائل بقدم الأرواح مغرور جاهل لا يدري ما يقول فلنقبض عنان البيان عن هذا الفن فهو وراء ما نحن بصدده .
والمقصود أن هذه اللطيفة هي الساعية إلى قرب الرب لأنها من أمر الرب فمنه مصدرها وإليه مرجعها وأما البدن فمطيتها التي تركبها وتسعى بواسطتها فالبدن لها في طريق الله تعالى كالناقة للبدن في طريق الحج وكالراوية الخازنة ، للماء الذي يفتقر إليه البدن فكل علم مقصده مصلحة البدن فهو من جملة مصالح المطية .
ولا يخفى أن الطب كذلك فإنه قد يحتاج إليه في حفظ الصحة على البدن ولو كان الإنسان وحده لاحتاج إليه والفقه يفارقه في أنه لو كان الإنسان وحده ربما كان يستغني عنه ولكنه خلق على وجه لا يمكنه أن يعيش وحده إذ لا يستقل بالسعي وحده في تحصيل طعامه بالحراثة والزرع والخبز والطبخ وفي تحصيل الملبس والمسكن وفي إعداد آلات ذلك كله فاضطر إلى المخالطة والاستعانة .
ومهما اختلط الناس وثارت شهواتهم تجاذبوا أسباب الشهوات وتنازعوا وتقاتلوا وحصل من قتالهم هلاكهم بسبب التنافس من خارج كما يحصل هلاكهم بسبب تضاد الأخلاط من داخل وبالطب يحفظ الاعتدال في الأخلاط المتنازعة من داخل وبالسياسة والعدل يحفظ الاعتدال في التنافس من خارج وعلم طريق اعتدال الأخلاط طب وعلم طريق اعتدال أحوال الناس في المعاملات والأفعال فقه .
وكل ذلك لحفظ البدن الذي هو مطية فالمتجرد لعلم الفقه أو الطب إذا لم يجاهد نفسه ولا يصلح قلبه كالمتجرد لشراء الناقة وعلفها وشراء الراوية وخرزها إذا لم يسلك بادية الحج .
والمستغرق عمره في دقائق الكلمات التي تجري في مجادلات الفقه كالمستغرق عمره في دقائق الأسباب التي بها تستحكم الخيوط التي تخرز بها الراوية للحج .
ونسبة هؤلاء من السالكين لطريق إصلاح القلب الموصل إلى علم المكاشفة كنسبة أولئك إلى سالكي طريق الحج ، أو ملابسي أركانه فتأمل هذا أولا واقبل النصيحة مجانا ممن قام عليه ذلك غالبا ولم يصل إليه إلا بعد جهد جهيد وجراءة تامة على مباينة الخلق العامة والخاصة في النزوع من تقليدهم بمجرد الشهوة فهذا القدر كاف في
وظائف المتعلم .