أعقب الدلالة على إعطاء الهدى في قوانين الإلهام في العجماوات بالدلالة على خلق الخصائص في الجماد بحيث تسير على السير الذي قدره الله لها سيرا لا يتغير ، فهي بذلك أهدى من فريق الكافرين الذين لهم عقول وحواس لا يهتدون بها إلى معرفة الله تعالى والنظر في أدلتها ، وفي ذلك دلالة على عظم القدرة وسعة العلم ووحدانية التصرف . وهذا استدلال بنظام بعض حوادث الجو حتى آل إلى قوله : فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن .
وقد حصل من هذا حسن التخلص للانتقال إلى الاستدلال على عظم القدرة وسمو الحكمة وسعة العلم الإلهي .
و ( يزجي ) : يسوق . يقال : أزجى الإبل إزجاء .
وأطلق الإزجاء على دنو بعض السحاب من بعض بتقدير الله تعالى الشبيه بالسوق حتى يصير سحابا كثيفا ، فانضمام بعض السحاب إلى بعض عبر عنه بالتأليف بين أجزائه بقوله تعالى : ثم يؤلف بينه إلخ .
[ ص: 261 ] وتقدم الكلام على السحاب في سورة البقرة في قوله : والسحاب المسخر وفي أول سورة الرعد .
ودخلت ( بين ) على ضمير السحاب ; لأن السحاب ذو أجزاء كقول امرئ القيس :
بين الدخول فحومل
أي يؤلف بين السحابات منه .
والركام : مشتق من الركم . والركم : الجمع والضم . ووزن فعال وفعالة يدل على معنى المفعول . فالركام بمعنى المركوم كما جاء في قوله تعالى : وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم في سورة الطور .
فإذا تراكم السحاب بعضه على بعض حدث فيه ما يسمى في علم حوادث الجو بالسيال الكهربائي وهو البرق . فقال بعض المفسرين : هو الودق . وأكثر المفسرين على أن الودق هو المطر ، وهو الذي اقتصرت عليه دواوين اللغة ، والمطر يخرج من خلال السحاب .
والخلال : الفتوق ، جمع خلل كجبل وجبال . وتقدم ( خلال الديار ) في سورة الإسراء .
ومعنى ( ينزل من السماء ) يسقط من علو إلى سفل ، أي ينزل من جو السماء إلى الأرض . والسماء : الجو الذي فوق جهة الأرض .
وقوله : ( من جبال ) بدل من ( السماء ) بإعادة حرف الجر العامل في المبدل منه وهو بدل بعض ; لأن المراد بالجبال سحاب أمثال الجبال .
وإطلاق الجبال في تشبيه الكثرة معروف ، يقال : فلان جبل علم ، وطود علم . وفي حديث من طريق البخاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة أحد ذهبا لسرني أن لا تمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيئا أرصده لدين أي : ما كان يسرني ، فالكلام بمعنى النفي ، أي لما سرني ، أو لما كان سرني إلخ . . لو كان لي مثل
[ ص: 262 ] وحرف ( من ) الأول للابتداء ، و ( من ) الثاني كذلك و ( من ) في قوله : ( من برد ) مزيدة في الإثبات على رأي الذين جوزوا زيادة ( من ) في الإثبات . أو تكون ( من ) اسما بمعنى بعض .
ومفعول ( ينزل ) محذوف يدل عليه قوله : فيها من برد . والتقدير : ينزل بردا .
ووقوع ( من ) زائدة لقصد مشاكلة قوله : ( من جبال ) .
وقوله : فيصيب به من يشاء جعل نزول البرد إصابة ; لأن الإصابة إذا أطلقت في كلامهم دلت على أنها حلول مكروه . ومن ذلك سميت المصيبة الحادثة المكروهة . وأما قوله تعالى : إن تصبك حسنة تسؤهم ; فلأن قوله : ( حسنة ) قرينة على إطلاق الإصابة على مطلق الحدوث إما مجازا مرسلا وإما مشتركا لفظيا أو مشتركا معنويا ، فإن ( أصاب ) مشتق من الصوب وهو النزول ومنه صوب المطر ، فجعل نزول البرد إصابة ; لأنه يفسد الزرع والثمرة ، فضمير ( به ) للبرد .
وجملة يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار وصف لـ ( سحابا ) . وضمير ( برقه ) عائد إلى ( سحابا ) . وفائدة هذه الصفة تنبيه العقول إلى التدبر في هذه التغيرات إذ كان شعور الناس بحدوث البرق أوضح وأكثر من شعورهم بتكون السحاب وتراكمه ونزول المطر والبرد ، إذ قد يغفل الناس عن ذلك لكثرة حدوثه وتعودهم به بخلاف اشتداد البرق ، فإنه لا يخلو أحد من أن يكون قد عرض له مرات ، فإن أصحاب الأبصار التي حركها خفق البرق يتذكرون تلك الحالة العجيبة الدالة على القدرة . ولهذه النكتة خصصت هذه الحالة من أحوال البرق بالذكر .
والسنا مقصورا : ضوء البرق وضوء النار . وأما السناء الممدود فهو الرفعة . قال في أبيات له في متشابه المقصور والممدود : ابن دريد
زال السنا عن ناظريه وزال عن شرف السناء
ومن أجل اختلاف المقامين وضع التعبير هنا بـ ( يذهب بالأبصار ) وهنالك بقوله : ( يخطف أبصارهم ) ; لأن في الخطف من معنى النكاية بهم والتسلط عليهم ما ليس في ( يذهب ) إذ هو مجرد الاستلاب .
وأما التعبير هنا بـ ( الأبصار ) معرفا باللام فلأن المقصود أن البرق مقارب أن يزيل طائفة من جنس الأبصار ; إذ اللام هنا لام الحقيقة كما في قوله : أن يأكله الذئب وقولهم : ادخل السوق; لأن الحكم على حالة البرق الشديد من حيث هي . بخلاف آية البقرة فإنها في مقام التوبيخ لهم بأن ما شأنه أن ينتفع الناس به قد أشرف على الضر بهم ، فلذلك ذكر لفظ أبصار مضافا إلى ضميرهم مع ما في هذا التخالف من تفنين الكلام الواحد على أفانين مختلفة حتى لا يكون الكلام معادا ، وإن كان المعنى متحدا ولا تجد حق الإيجاز فائتا ، فإن هذين الكلامين في حد التساوي في الحرف والنطق . وهكذا نرى وحلاوة نظمه . بلاغة القرآن وإعجازه
وقرأ الجمهور ( يذهب ) بفتح التحتية وفتح الهاء ، فالباء للتعدية ، أي يذهب الأبصار . وقرأه أبو جعفر وحده بضم التحتية وكسر الهاء فتكون الباء مزيدة لتأكيد اللصوق مثل وامسحوا برءوسكم .