والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب وما يعلم تأويله إلا الله .
جملة حال ، أي وهم لا قبل لهم بتأويله ; إذ ليس تأويله لأمثالهم ، كما قيل في المثل : ( ليس بعشك فادرجي ) .
ومن هنا ، غير الراجعة إلى التشريع ، فقال أمسك السلف عن تأويل المتشابهات أبو بكر - رضي الله عنه - : أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في كتاب الله [ ص: 164 ] بما لا أعلم وجاء في زمن عمر - رضي الله عنه - رجل إلى المدينة من البصرة ، يقال له صبيغ بن شريك أو ابن عسل التميمي فجعل يسأل الناس عن متشابه القرآن ، وعن أشياء . فأحضره عمر ، وضربه ضربا موجعا ، وكرر ذلك أياما ، فقال : حسبك يا أمير المؤمنين فقد ذهب ما كنت أجد في رأسي ، ثم أرجعه إلى البصرة وكتب إلى أن يمنع الناس من مخالطته . ومن السلف من تأول عند عروض الشبهة لبعض الناس ، كما فعل أبي موسى الأشعري فيما ذكرناه آنفا . ابن عباس
قال ابن العربي - في ( العواصم من القواصم ) - من الكائدين للإسلام الباطنية والظاهرية . قلت : أما الباطنية فقد جعلوا معظم القرآن متشابها ، وتأولوه بحسب أهوائهم ، وأما الظاهريون فقد أكثروا في متشابهه ، واعتقدوا سبب التشابه واقعا ، فالأولون دخلوا في قوله : وابتغاء تأويله ، والأخيرون خرجوا من قوله : وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم أو وما يعلم تأويله إلا الله فخالفوا الخلف والسلف . قال ابن العربي - في العواصم - : وأصل الظاهريين الخوارج الذين قالوا : لا حكم إلا لله ، يعني أنهم أخذوا بظاهر قوله تعالى : إن الحكم إلا لله ، ولم يتأولوه بما هو المراد من الحكم .
والمراد بالراسخين في العلم : الذين تمكنوا في علم الكتاب ، ومعرفة محامله ، وقام عندهم من الأدلة ما أرشدهم إلى مراد الله تعالى ، بحيث لا تروج عليهم الشبه . والرسوخ في كلام العرب : الثبات والتمكن في المكان ، يقال : رسخت القدم ترسخ رسوخا إذا ثبتت عند المشي ولم تتزلزل ، واستعير الرسوخ لكمال العقل والعلم بحيث لا تضلله الشبه ، ولا تتطرقه الأخطاء غالبا ، وشاعت هذه الاستعارة حتى صارت كالحقيقة . فالراسخون في العلم : الثابتون فيه العارفون بدقائقه ، فهم يحسنون مواقع التأويل ويعلمونه .
ولذا فقوله والراسخون معطوف على اسم الجلالة ، وفي هذا العطف تشريف عظيم : كقوله شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم وإلى هذا التفسير مال ابن عباس ، ومجاهد ، والربيع بن سليمان ، والشافعية ، والقاسم بن محمد ، وابن فورك ، والشيخ أحمد القرطبي ، وابن عطية ، وعلى هذا فليس في القرآن آية استأثر [ ص: 165 ] الله بعلمها ، ويؤيد هذا أن الله أثبت للراسخين في العلم فضيلة ، ووصفهم بالرسوخ ، فآذن بأن لهم مزية في فهم المتشابه ; لأن المحكم يستوي في علمه جميع من يفهم الكلام ، ففي أي شيء رسوخهم ؟ وحكى إمام الحرمين ، عن : أنه قال في هاته الآية أنا ممن يعلم تأويله . ابن عباس
وقيل : الوقف على قوله إلا الله ، وإن جملة والراسخون في العلم مستأنفة ، وهذا مروي عن جمهور السلف ، وهو قول ابن عمر ، وعائشة ، وابن مسعود ، وأبي ، ورواه أشهب عن مالك في جامع العتبية ، وقاله عروة بن الزبير ، والكسائي ، والأخفش والحنفية ، وإليه مال والفراء ، فخر الدين .
ويؤيد الأول وصفهم بالرسوخ في العلم ; فإنه دليل بين على أن الحكم الذي أثبت لهذا الفريق ، هو حكم من معنى العلم والفهم في المعضلات ، وهو تأويل المتشابه ، على أن أصل العطف هو عطف المفردات دون عطف الجمل ، فيكون الراسخون معطوفا على اسم الجلالة فيدخلون في أنهم يعلمون تأويله . ولو كان الراسخون مبتدأ وجملة يقولون آمنا به خبرا ، لكان حاصل هذا الخبر مما يستوي فيه سائر المسلمين الذين لا زيغ في قلوبهم ، فلا يكون لتخصيص الراسخين فائدة . قال ابن عطية تسميتهم راسخين تقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه الجميع وما الرسوخ إلا المعرفة بتصاريف الكلام بقريحة معدة ، وما ذكرناه وذكره ابن عطية لا يعدو أن يكون ترجيحا لأحد التفسيرين ، وليس إبطالا لمقابله إذ قد يوصف بالرسوخ من يفرق بين ما يستقيم تأويله ، وما لا مطمع في تأويله .
وفي قوله : وما يذكر إلا أولو الألباب إشعار بأن الراسخين يعلمون تأويل المتشابه .
واحتج أصحاب الرأي الثاني ، وهو رأي الوقف على اسم الجلالة : بأن الظاهر أن يكون جملة والراسخون مستأنفة لتكون معادلا لجملة فأما الذين في قلوبهم زيغ ، والتقدير : وأما الراسخون في العلم . وأجاب التفتازاني بأن المعادل لا يلزم أن يكون مذكورا ، بل قد يحذف لدلالة الكلام عليه . واحتجوا أيضا بقوله تعالى [ ص: 166 ] يقولون آمنا به كل من عند ربنا قال الفخر : لو كانوا عالمين بتأويله لم يكن لهذا الكلام فائدة ; إذ الإيمان بما ظهر معناه أمر غير غريب . وسنجيب عن هذا عند الكلام على هذه الجملة ، وذكر الفخر حججا غير مستقيمة .
ولا يخفى أن أهل القول الأول لا يثبتون متشابها غير ما خفي المراد منه ، وأن خفاء المراد متفاوت ، وأن أهل القول الثاني يثبتون متشابها استأثر الله بعلمه ، وهو أيضا متفاوت ; لأن منه ما يقبل تأويلات قريبة ، وهو مما ينبغي ألا يعد من المتشابه في اصطلاحهم ، لكن صنيعهم في الإمساك عن تأويل آيات كثيرة سهل تأويلها مثل فإنك بأعيننا دل على أنهم يسدون باب ، قال الشيخ التأويل في المتشابه ابن عطية إن تأويل ما يمكن تأويله لا يعلم تأويله - على الاستيفاء - إلا الله تعالى ، فمن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه ، فإنما أراد هذا النوع ، وخافوا أن يظن أحد أن الله وصف الراسخين بعلم التأويل على الكمال .
وعلى الاختلاف في محمل العطف في قوله تعالى : والراسخون في العلم انبنى اختلاف بين علماء الأمة في تأويل ما كان متشابها من آيات القرآن ، ومن صحاح الأخبار ، عن النبيء ، صلى الله عليه وسلم .
فكان رأي فريق منهم الإيمان بها ، على إبهامها وإجمالها ، وتفويض العلم بكنه المراد منها إلى الله تعالى ، وهذه طريقة سلف علمائنا ، قبل ظهور شكوك الملحدين أو المتعلمين ، وذلك في عصر الصحابة والتابعين وبعض عصر تابعيهم ، ويعبر عنها بطريقة السلف ، ويقولون : طريقة السلف أسلم ، أي أشد سلامة لهم من أن يتأولوا تأويلات لا يدرى مدى ما تفضي إليه من أمور لا تليق بجلال الله تعالى ولا تتسق مع ما شرعه للناس من الشرائع ، مع ما رأوا من اقتناع أهل عصرهم بطريقتهم ، وانصرافهم عن التعمق في طلب التأويل .
وكان رأي جمهور من جاء بعد عصر السلف تأويلها بمعان من طرائق استعمال الكلام العربي البليغ من مجاز ، واستعارة ، وتمثيل ، مع وجود الداعي إلى التأويل ، وهو تعطش العلماء الذين اعتادوا التفكر والنظر وفهم الجمع بين أدلة القرآن والسنة ، ويعبر عن هذه الطريقة بطريقة الخلف ، ويقولون : طريقة الخلف أعلم ، أي أنسب بقواعد [ ص: 167 ] العلم وأقوى في تحصيل العلم لجدال الملحدين ، والمقنع لمن يتطلبون الحقائق من المتعلمين ، وقد يصفونها بأنها أحكم أي أشد إحكاما ; لأنها تقنع أصحاب الأغراض كلهم . وقد وقع هذان الوصفان في كلام المفسرين وعلماء الأصول ، ولم أقف على تعيين أول من صدر عنه ، وقد تعرض الشيخ ابن تيمية - في العقيدة الحموية - إلى رد هذين الوصفين ولم ينسبهما إلى قائل . والموصوف بأسلم وبأعلم الطريقة لا أهلها ; فإن أهل الطريقتين من أئمة العلم ، وممن سلموا في دينهم من الفتن .
وليس في وصف هذه الطريقة بأنها أعلم أو أحكم ، غضاضة من الطريقة الأولى ; لأن العصور الذين درجوا على الطريقة الأولى فيهم من لا تخفى عليهم محاملها بسبب ذوقهم العربي ، وهديهم النبوي ، وفيهم من لا يعير البحث عنها جانبا من همته ، مثل سائر العامة . فلا جرم كان طي البحث عن تفصيلها أسلم للعموم ، وكان تفصيلها بعد ذلك أعلم لمن جاء بعدهم ، بحيث لو لم يؤولوها به لأوسعوا للمتطلعين إلى بيانها مجالا للشك أو الإلحاد أو ضيق الصدر في الاعتقاد .
واعلم أن التأويل منه ما هو واضح بين ، فصرف اللفظ المتشابه عن ظاهره إلى ذلك التأويل يعادل حمل اللفظ على أحد معنييه المشهورين لأجل كثرة استعمال اللفظ في المعنى غير الظاهر منه . فهذا القسم من التأويل حقيق بألا يسمى تأويلا ، وليس أحد محمليه بأقوى من الآخر إلا أن أحدهما أسبق في الوضع من الآخر ، والمحملان متساويان في الاستعمال وليس سبق إطلاق اللفظ على أحد المعنيين بمقتض ترجيح ذلك المعنى ، فكم من إطلاق مجازي للفظ هو أسبق إلى الأفهام من إطلاقه الحقيقي . وليس قولهم في علم الأصول بأن الحقيقة أرجح من المجاز بمقبول على عمومه .
وتسمية هذا النوع بالمتشابه ليست مرادة في الآية . وعده من المتشابه جمود .
ومن التأويل ما ظاهر معنى اللفظ فيه أشهر من معنى تأويله ولكن القرائن أو الأدلة أوجبت صرف اللفظ عن ظاهر معناه . فهذا حقيق بأن يعد من المتشابه .
ثم إن تأويل اللفظ في مثله قد يتيسر بمعنى مستقيم يغلب على الظن أنه المراد إذا جرى حمل اللفظ على ما هو من مستعملاته في الكلام البليغ مثل الأيدي والأعين في [ ص: 168 ] قوله : بنيناها بأيد وقوله : فإنك بأعيننا فمن أخذوا من مثله أن لله أعينا لا يعرف كنهها ، أو له يدا ليست كأيدينا ، فقد زادوا في قوة الاشتباه .
ومنه ما يعتبر تأويله احتمالا وتجويزا بأن يكون الصرف عن الظاهر متعينا . وأما حمله على ما أولوه به فعلى وجه الاحتمال والمثال ، وهذا مثل قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى وقوله : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام فمثل ذلك مقطوع بوجوب تأويله ولا يدعي أحد أن ما أوله به هو المراد منه ولكنه وجه تابع لإمكان التأويل ، وهذا النوع أشد مواقع التشابه والتأويل .
وقد استبان لك من هذه التأويلات : أن نظم الآية جاء على أبلغ ما يعبر به في مقام يسع طائفتين من علماء الإسلام في مختلف العصور .
وقوله : يقولون آمنا به حال من الراسخون أي يعلمون تأويله في هذه الحالة والمعنى عليه يحتمل أن يكون المراد من القول الكناية عن الاعتقاد ; لأن شأن المعتقد أن يقول معتقده ، أي يعلمون تأويله ولا يهجس في نفوسهم شك من جهة وقوع المتشابه حتى يقولوا : لماذا لم يجئ الكلام كله واضحا ، ويتطرقهم من ذلك إلى الريبة في كونه من عند الله ، فلذلك يقولون : كل من عند ربنا . ويحتمل أن المراد : يقولون لغيرهم ، أي من لم يبلغ مرتبة الرسوخ من عامة المسلمين ، الذين لا قبل لهم بإدراك تأويله ، ليعلموهم الوقوف عند حدود الإيمان ، وعدم التطلع إلى ما ليس بالإمكان ، وهذا يقرب مما قاله أهل الأصول : إن المجتهد لا يلزمه بيان مدركه للعامي ، إذا سأله عن مأخذ الحكم ، إذا كان المدرك خفيا . وبهذا يحصل الجواب عن احتجاج الفخر بهذه الجملة لترجيح الوقف على اسم الجلالة .
وعلى قول المتقدمين يكون قوله : " يقولون " خبرا ، ومعنى قوله : آمنا به آمنا بكونه من عند الله ، وإن لم نفهم معناه .
وقوله : كل من عند ربنا أي كل من المحكم والمتشابه . وهو على الوجهين بيان لمعنى قولهم : آمنا به فلذلك قطعت الجملة . أي كل من المحكم والمتشابه ، منزل من الله .
[ ص: 169 ] وزيدت كلمة " عند " للدلالة على أن " من " هنا للابتداء الحقيقي دون المجازي ، أي هو منزل من وحي الله تعالى وكلامه ، وليس كقوله : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك .
وجملة وما يذكر إلا أولو الألباب تذييل ، ليس من كلام الراسخين ، مسوق مساق الثناء عليهم في اهتدائهم إلى صحيح الفهم .
والألباب : العقول ، وتقدم عند قوله تعالى : واتقون يا أولي الألباب في سورة البقرة .