( إذا ) اسم زمان مبهم يتعين مقداره بمضمون جملة يضاف إليها هو . فـ ( إذا ) اسم زمان مطلق ، فقد يستعمل للزمن المستقبل غالبا . ولذلك يضمن معنى الشرط غالبا ، ويكون الفعل الذي تضاف إليه بصيغة الماضي غالبا لإفادة التحقق ، وقد يكون مضارعا كقوله تعالى : وهو على جمعهم إذا يشاء قدير .
ويستعمل في الزمن الماضي وحينئذ يتعين أن تقع الجملة بعده بصيغة الماضي ، ولا تضمن ( إذا ) معنى الشرط حينئذ ، وإنما هي لمجرد الإخبار دون قصد تعليق نحو وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها .
و ( إذا ) هنا مضمنة الشرط لا محالة لوجود الفاء بقوله : فسبح بحمد ربك وقضية الاستقبال وعدمه تقدمت .
والنصر : الإعانة على العدو . ونصر الله يعقبه التغلب على العدو . والفتح : امتلاك بلد العدو وأرضه ; لأنه يكون بفتح باب البلد كقوله تعالى : ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ، ويكون باقتحام ثغور الأرض ومحارسها فقد كانوا ينزلون بالأرضين التي لها شعاب وثغور ، قال لبيد :
وأجن عورات الثغور ظلامها
وقد فتح المسلمون خيبر قبل نزول هذه الآية فتعين أن الفتح المذكور فيها فتح آخر وهو مكة كما يشعر به التعريف بلام العهد ، وهو المعهود في قوله تعالى : فتح إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا .
فإضافة ( نصر ) إلى ( الله ) تشعر بتعظيم هذا النصر ، وأنه نصر عزيز خارق للعادة اعتنى الله بإيجاد أسبابه ولم تجر على متعارف تولد الحوادث عن أمثالها . و ( جاء ) مستعمل في معنى : حصل وتحقق مجازا .
[ ص: 591 ] والتعريف في ( الفتح ) للعهد وقد وعد الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - به غير مرة من ذلك قوله تعالى : إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد وقوله : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا . وهذه الآية نزلت عام الحديبية ، وذلك قبل نزول سورة إذا جاء نصر الله على جميع الأقوال .
وقد اتفقت أقوال المفسرين من السلف فمن بعدهم على أن الفتح المذكور في هذه السورة هو فتح مكة إلا رواية عن عن سعيد بن جبير هو فتح المدائن والقصور ، يعني : الحصون . وقد كان فتح ابن عباس مكة يخالج نفوس العرب كلهم ، فالمسلمون كانوا يرجونه ويعلمون ما أشار به القرآن من الوعد ، وأهل مكة يتوقعونه وبقية العرب ينتظرون ماذا يكون الحال بين أهل مكة وبين النبيء - صلى الله عليه وسلم - ويتلومون بدخولهم في الإسلام فتح مكة يقولون : إن ظهر محمد على قومه فهو نبي . وتكرر أن صد بعضهم بعضا ممن يريد اتباع الإسلام ، عن الدخول فيه وإنظاره إلى ما سيظهر من غلب الإسلام أو غلب الشرك .
أخرج عن البخاري عمرو بن سلمة قال : " لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة ، فيقولون : دعوه وقومه ، فإن ظهر عليهم فهو نبيء " .
وعن الحسن : لما فتحت مكة أقبلت العرب بعضها على بعض فقالوا : أما إذ ظفر بأهل الحرم ، فليس لنا به يدان ، فكانوا يدخلون في الإسلام أفواجا . فعلى قول الجمهور في أن الفتح هو فتح مكة ، يستقيم أن تكون هذه السورة نزلت بعد فتح خيبر وهو قول الأكثرين في وقت نزولها .
ويحتمل على قول القائلين بأنها نزلت عقب غزوة حنين أن يكون الفتح قد مضى ويكون التعليق على مجموع فتح مكة ومجيء نصر من الله آخر ودخول الناس في الإسلام ، وذلك بما فتح عليه بعد ذلك ودخول العرب كلهم في الإسلام سنة الوفود .
وعلى ما روي عن ( أنها نزلت في حجة الوداع ) يكون تعليق جملة ( ابن عمر فسبح بحمد ربك ) على الشرط الماضي مرادا به التذكير بأنه حصل ، أي : إذا [ ص: 592 ] تحقق ما وعدناك به من النصر والفتح وعموم الإسلام بلاد العرب فسبح بحمد ربك ، وهو مراد من قال من المفسرين ( إذا ) بمعنى ( قد ) ، فهو تفسير حاصل المعنى ، وليست ( إذا ) مما يأتي بمعنى ( قد ) .
والرؤية في قوله : ورأيت الناس يجوز أن تكون علمية ، أي : وعلمت علم اليقين أن الناس يدخلون في دين الله أفواجا وذلك بالأخبار الواردة من آفاق بلاد العرب ومواطن قبائلهم وبمن يحضر من وفودهم . فيكون جملة ( يدخلون ) في محل المفعول الثاني لـ ( رأيت ) .
ويجوز أن تكون رؤية بصرية بأن رأى أفواج وفود العرب يردون إلى المدينة يدخلون في الإسلام وذلك سنة تسع ، وقد رأى النبيء - صلى الله عليه وسلم - ببصره ما علم منه دخولهم كلهم في الإسلام بمن حضر معه الموقف في حجة الوداع ، فقد كانوا مائة ألف من مختلف قبائل العرب فتكون جملة ( يدخلون ) في موضع الحال من الناس .
لقوله تعالى : و دين الله هو الإسلام إن الدين عند الله الإسلام وقوله : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها .
والدخول في الدين : مستعار للنطق بكلمة الشهادة والتزام أحكام الدين الناشئة عن تلك الشهادة . فشبه الدين ببيت أو حظيرة على طريقة المكنية ورمز إليه بما هو من لوازم المشبه به وهو الدخول على تشبيه التلبس بالدين بتلبس المظروف بالظرف ، ففيه استعارة أخرى تصريحية .
والناس : اسم جمع يدل على جماعة من الآدميين ، وقد تقدم عند قوله تعالى : ومن الناس من يقول آمنا بالله في سورة البقرة ، وإذا عرف اسم ناس باللام احتملت العهد نحو الذين قال لهم الناس ، واحتملت الجنس نحو إن الناس قد جمعوا لكم واحتملت الاستغراق نحو ومن الناس من يقول ونحو قل أعوذ برب الناس .
والتعريف في هذه الآية للاستغراق العرفي ، أي : جميع الناس الذين يخطرون بالبال لعدم إرادة معهودين معينين ولاستحالة دخول كل إنسان في دين الله بدليل [ ص: 593 ] المشاهدة ، فالمعنى : ورأيت ناسا كثيرين أو رأيت العرب .
قال ابن عطية : قال - رحمه الله - في كتاب الاستيعاب في باب أبو عمر بن عبد البر النمري خراش الهذلي : " لم يمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي العرب رجل كافر ، بل دخل الكل في الإسلام بعد حنين والطائف ، منهم من قدم ومنهم من قدم وافده " اهـ . وإنما يراد عرب الحجاز ونجد واليمن ; لأن من عرب الشام والعراق من لم يدخلوا في الإسلام ، وهم تغلب وغسان في مشارف الشام ، وكذلك لخم وكلب من العراق ، فهؤلاء كانوا نصارى ولم يسلم من أسلم منهم إلا بعد فتح الشام والعراق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلون في دين الله رؤية بصرية .
ويجوز أن يكون الله أعلمه بذلك إن جعلنا الرؤية علمية .
والأفواج : جمع فوج وهو الجماعة الكثيرة ، وتقدم عند قوله تعالى : هذا فوج مقتحم معكم في سورة ص ، أي : يدخلون في الإسلام ، وانتصب ( أفواجا ) على الحال من ضمير ( يدخلون ) .
وجملة فسبح بحمد ربك جواب ( إذا ) باعتبار ما تضمنته من معنى الشرط ، وفعل ( فسبح ) هو العامل في ( إذا ) النصب على الظرفية ، والفاء رابطة للجواب ; لأنه فعل إنشاء .
وقرن التسبيح بالحمد بباء المصاحبة المقتضية أن التسبيح لاحق للحمد ; لأن باء المصاحبة بمعنى ( مع ) فهي مثل ( مع ) في أنها تدخل على المتبوع ، فكان حمد الله على حصول النصر والفتح ودخول الناس في الإسلام شيئا مفروغا منه لا يحتاج إلى الأمر بإيقاعه ; لأن شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قد فعله ، وإنما يحتاج إلى تذكيره بتسبيح خاص لم يحصل من قبل في تسبيحاته وباستغفار خاص لم يحصل من قبل في استغفاره .
ويجوز أن يكون التسبيح المأمور به تسبيح ابتهاج وتعجب من تيسير الله تعالى له ما لا يخطر ببال أحد أن يتم له ذلك ، فإن سبحان الله ونحوه يستعمل في التعجب كقول الأعشى :
[ ص: 594 ]
قد قلت لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر
وفي تقديم الأمر بالتسبيح والحمد على الأمر بالاستغفار تمهيد لإجابة استغفاره على عادة العرب في كما قال تقديم الثناء قبل سؤال الحاجة : ابن أبي الصلت
إذا أثنى عليك المرء يوما كفاه عن تعرضه الثناء
فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يخلو عن تسبيح الله ، فأريد تسبيح يقارن الحمد على ما أعطيه من النصر والفتح ودخول الأمة في الإسلام .
وعطف الأمر باستغفار الله تعالى على الأمر بالتسبيح مع الحمد يقتضي أنه من حيز جواب ( إذا ) ، وأنه استغفار يحصل مع الحمد مثل ما قرر في فسبح بحمد ربك ، فيدل على أنه استغفار خاص ; لأن الاستغفار الذي يعم طلب غفران التقصير ونحوه مأمور به من قبل وهو من شأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - فقد قال : ( إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة ) فكان تعليق الأمر بالتسبيح وبالاستغفار على حصول النصر والفتح إيماء إلى تسبيح واستغفار يحصل بهما تقرب لم ينو من قبل ، وهو التهيؤ للقاء الله ، وأن حياته الدنيوية أوشكت على الانتهاء ، وانتهاء أعمال الطاعات والقربات التي تزيد النبيء - صلى الله عليه وسلم - في رفع درجاته عند ربه ، فلم يبق إلا أن يسأل ربه التجاوز عما يعرض له من اشتغال ببعض الحظوظ الضرورية للحياة ، أو من اشتغال بمهم من أحوال الأمة يفوته بسببه أمر آخر هو أهم منه ، مثل فداء أسرى بدر مع فوات مصلحة استئصالهم الذي هو أصلح للأمة ، فعوتب عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى : ما كان لنبي أن يكون له أسرى الآية ، أو من ضرورات الإنسان كالنوم والطعام التي تنقص من حالة شبهه بالملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، فكان هذا إيذانا باقتراب وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بانتقاله من حياة تحمل أعباء الرسالة إلى حياة أبدية في العلويات الملكية .
والكلام من قبيل الكناية الرمزية وهي لا تنافي إرادة المعنى الصريح بأن يحمل الأمر بالتسبيح والاستغفار على معنى الإكثار من قول ذلك ، وقد دل ذوق الكلام بعض ذوي الأفهام النافذة من الصحابة على هذا المعنى وغاصت عليه مثل أبي بكر وعمر والعباس وابنه عبد الله فعن وابن مسعود ، مقاتل : ( لما نزلت قرأها [ ص: 595 ] النبيء - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه ففرحوا واستبشروا وبكى العباس ، فقال له النبيء - صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك يا عم ؟ قال : نعيت إليك نفسك . فقال : إنه لكما تقول . ) وفي رواية : نزلت في منى فبكى عمر والعباس فقيل لهما ، فقالا : فيه نعي رسول الله ، فقال النبيء - صلى الله عليه وسلم : صدقتما نعيت إلي نفسي .
وفي صحيح وغيره عن البخاري : كان ابن عباس عمر يأذن لأهل بدر ويأذن لي معهم ، فوجد بعضهم من ذلك ، فقال لهم عمر : إنه من قد علمتم . قال : فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم ، فسألهم عن هذه السورة إذا جاء نصر الله والفتح فقالوا : أمر الله نبيئه إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه فقال : ما تقول يا ؟ قلت : ليس كذلك ، ولكن أخبر الله نبيئه حضور أجله فقال : ابن عباس إذا جاء نصر الله والفتح فذلك علامة موتك ، فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تقول . فهذا فهم عمر والعباس وعبد الله ابنه .
وقال في الكشاف : روي أنه لما نزلت خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أبو بكر فقال : فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا اهـ . إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله عز وجل . فعلم
قال ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف : " الحديث متفق عليه إلا صدره دون أوله من كونه كان عند نزول السورة " اهـ . ويحتمل أن يكون بكاء أبي بكر تكرر مرتين أولاهما عند نزول سورة النصر كما في رواية الكشاف والثانية عند خطبة النبيء - صلى الله عليه وسلم - في مرضه .
وعن أن هذه السورة تسمى سورة التوديع أي : لأنهم علموا أنها إيذان بقرب ابن مسعود . وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
وتقديم التسبيح والحمد على الاستغفار ; لأن التسبيح راجع إلى وصف الله تعالى بالتنزه عن النقص وهو يجمع صفات السلب ، فالتسبيح متمحض لجانب الله تعالى ، ولأن الحمد ثناء على الله لإنعامه ، وهو أداء العبد ما يجب عليه لشكر المنعم ، فهو مستلزم إثبات صفات الكمال لله التي هي منشأ إنعامه على عبده ، فهو جامع بين جانب الله وحظ العبد ، وأما الاستغفار فهو حظ للعبد وحده ; لأنه طلبه الله أن يعفو عما يؤاخذه عليه .
[ ص: 596 ] ومقتضى الظاهر أن يقول : فسبح بحمده ، لتقدم اسم الجلالة في قوله : إذا جاء نصر الله فعدل على الضمير إلى الاسم الظاهر وهو ربك لما في صفة ( رب ) وإضافتها إلى ضمير المخاطب من الإيماء إلى أن من حكمة ذلك النصر والفتح ودخول الناس في الإسلام نعمة أنعم الله بها عليه إذا حصل هذا الخير الجليل بواسطته ، فذلك تكريم له وعناية به وهو شأن تلطف الرب بالمربوب ; لأن معناه السيادة المرفوقة بالرفق والإبلاغ إلى الكمال .
وقد انتهى الكلام عند قوله ( واستغفره ) وقد روي ( أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - كان في قراءته يقف عند ( واستغفره ) ثم يكمل السورة ) .