( بآياتنا ) هي العصا واليد . ( بينات ) أي واضحات الدلالة على صدقه ، وأنه أمر خارق معجز ، كفوا عن مقاومته ومعارضته ، فرجعوا إلى البهت والكذب ، ونسبوه إلى أنه سحر ؛ لأنهم يرون الشيء على حالة ، ثم يرونه على حالة أخرى ، ثم يعود إلى الحالة الأولى ، فزعموا أنه سحر يفتعله موسى ويفتريه على الله ، فليس بمعجز . ثم مع دعواهم أنه سحر مفترى ، وكذبهم في ذلك ، أرادوا في الكذب أنهم ما سمعوا بهذا في آبائهم ، أي في زمان آبائهم وأيامهم . وفي آبائنا : حال ، أي بهذا ، أي بمثل هذا كائنا في أيام آبائنا . وإذا نفوا السماع لمثل هذا في الزمان السابق ، ثبت أن ما ادعاه موسى هو بدع لم يسبق إلى مثله ، فدل على أنه مفترى على الله ، وقد كذبوا في ذلك ، وطرق سماعهم أخبار الرسل السابقين موسى في الزمان . ألا ترى إلى قول مؤمن من آل فرعون : ( ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات ) ؟
ولما رأى موسى ما قابلوه به من كون ما أتى به سحرا ، وانتفاء سماع مثله في الزمان السابق ( قال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ) حيث أهله للرسالة ، وبعثه بالهدى ، ووعده حسن العقبى ، ويعني بذلك نفسه ، ولو كان كما يزعمون لم يرسله . ثم نبه على العلة الموجبة لعدم الفلاح ، وهي الظلم . وضع الشيء غير موضعه ، حيث دعوا ، وأتوا بالمعجزات ، فادعوا الإلهية ، ونسبوا ذلك المعجز إلى السحر . وعاقبة الدار وإن كانت تصلح للمحمودة والمذمومة ، فقد كثر استعمالها في المحمودة ، فإن لم تقيد ، حملت عليها . ألا ترى إلى قوله : ( إلى الإيمان بالله أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن ) ؟ وقال : ( وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار ) وقرأ ابن كثير : قال موسى ، بغير واو ؛ وباقي السبعة : بالواو . ومناسبة قراءة الجمهور أنه لما جاءهم بالبينات قالوا : كيت وكيت ، وقال موسى : كيت وكيت ؛ فيتميز الناظر فصل ما بين القولين وفساد أحدهما ، إذ قد تقابلا ، فيعلم يقينا أن قول موسى هو الحق والهدى . ومناسبة قراءة ابن كثير ، [ ص: 120 ] أنه موضع قراءة لما قالوا : كيت وكيت ، قال موسى : كيت وكيت . ونفى فرعون علمه بإله غيره للملأ ، ويريد بذلك نفي وجوده ، أي ما لكم من إله غيري . ويجوز أن يكون غير معلوم عنده إله لهم ، ولكنه مظنون ، فيكون النفي على ظاهره ، ويدل على ذلك قوله : ( وإني لأظنه من الكاذبين ) وهو الكاذب في انتفاء علمه بإله غيره . ألا ترى إلى قوله حالة غرقه : ( آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ) ؟ واستمر فرعون في مخرقته ، ونادى وزيره هامان ، وأمره أن يوقد النار على الطين . قيل : وهو أول من عمل الآجر ، ولم يقل : اطبخ الآجر ؛ لأنه لم يتقدم لهامان علم بذلك ، ففرعون هو الذي يعلمه ما يصنع .
( فاجعل لي صرحا ) أي ابن لي ، لعلي أطلع إلى إله موسى . أوهم قومه أن إله موسى يمكن الوصول إليه والقدرة عليه ، وهو عالم متيقن أن ذلك لا يمكن له ؛ وقومه لغباوتهم وجهلهم وإفراط عمايتهم ، يمكن ذلك عندهم ، ونفس إقليم مصر يقتضي لأهله تصديقهم بالمستحيلات وتأثرهم للموهمات والخيالات ، ولا يشك أنه كان من قوم فرعون من يعتقد أنه مبطل في دعواه ، ولكن يوافقه مخافة سطوه واعتدائه . كما رأيناه يعرض لكثير من العقلاء ، إذا حدث رئيس بحضرته بحديث مستحيل ، يوافقه على ذلك الحديث . ولا يدل الأمر ببناء الصرح على أنه بني ، وقد اختلف في ذلك ، فقيل : بناه ، وذكر من وصفه بما الله أعلم به . وقيل : لم يبن . واطلع في معنى : طلع ، يقال : طلع إلى الجبل واطلع بمعنى واحد ، أي صعد ، فافتعل فيه بمعنى الفعل المجرد وبغير الحق ، إذ ليس لهم ذلك ، فهم مبطلون في استكبارهم ؛ حيث ادعى الإلهية ووافقوه على ذلك ؛ والكبرياء في الحقيقة إنما هو لله . وقرأ حمزة ، ، والكسائي ونافع : " لا يرجعون " مبنيا للفاعل ؛ والجمهور : مبنيا للمفعول . والأرض هنا أرض مصر . ( فنبذناهم في اليم ) كناية عن إدخالهم في البحر حتى غرقوا ، شبهوا بحصيات . قذفها الرامي من يده ، ومنه نبذ النواة ، وقول الشاعر :
نظرت إلى عنوانه فنبذته كنبذك نعلا من نعالك باليا
وقوم فرعون وفرعون ، وإن ساروا إلى البحر باختيارهم في طلب بني إسرائيل ، فإن ما ضمهم من القدر السابق ، وإغراقهم في البحر ، هو نبذ الله إياهم . و " جعل " هنا بمعنى : صير ، أي صيرناهم أئمة قدوة للكفار يقتدون بهم في ضلالتهم ، كما أن للخير أئمة يقتدى بهم ، اشتهروا بذلك وبقي حديثهم . وقال : وجعلناهم : دعوناهم ، أئمة : دعاة إلى النار ، وقلنا : إنهم أئمة دعاة إلى النار ، وهو من قولك : جعله بخيلا وفاسقا إذا دعاه فقال : إنه بخيل وفاسق . ويقول أهل اللغة في تفسير فسقه وبخله : جعله بخيلا وفاسقا ، ومنه قوله عز وجل : ( الزمخشري وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ) . ومعنى دعوتهم إلى النار : دعوتهم إلى موجباتها من الكفر . انتهى . وإنما فسر جعلناهم بمعنى دعوناهم ، لا بمعنى صيرناهم ، جريا على مذهبه من الاعتزال ؛ لأن في تصييرهم أئمة ، خلق ذلك لهم ، وعلى مذهب المعتزلة ، جوزون ذلك من الله ، ولا ينسبونه إليه ، قال : ويجوز خذلناهم حتى كانوا أئمة الكفر ، ومعنى الخذلان : منع الألطاف ، وإنما يمنعها من علم أنه لا ينفع فيه ، وهو المصمم على الكفر ، الذي لا تغني عنه الآيات والنذر . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال أيضا . ( لعنة ) أي طردا وإبعادا ، وعطف " يوم القيامة " على : " في هذه الدنيا " . ( من المقبوحين ) قال أبو عبيدة : من الهالكين . وقال : من المشوهين الخلقة ، لسواد الوجوه وزرقة العيون . وقيل : من المبعدين . ابن عباس
ولما ذكر تعالى ما آل إليه فرعون وقومه من غضب الله عليهم وإغراقه ، ذكر ما امتن به على رسوله موسى - عليه السلام - فقال : ( ولقد آتينا موسى الكتاب ) وهو التوراة ، وهو . ( أول كتاب أنزلت فيه الفرائص والأحكام من بعد ما أهلكنا القرون الأولى ) قوم نوح وهود وصالح ولوط ، ويقال : لم تهلك قرية بعد نزول التوراة غير القرية التي مسخ أهلها قردة . وانتصب [ ص: 121 ] " بصائر " على الحال ، أي طرائق هدى يستبصر بها .