ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، اختلف العلماء في هذه الآية الكريمة : هل هي في المسلمين ، أو في الكفار ؟ ، فروي عن قوله تعالى : أنها في المسلمين ، وروي عنه أنها في الشعبي اليهود ، وروي عن أيضا أنها في المسلمين ، وأن المراد بالكفر فيها كفر دون كفر ، وأنه ليس الكفر المخرج من الملة ، وروي عن طاوس في هذه الآية أنه قال : ليس الكفر الذي تذهبون إليه ، رواه عنه ابن عباس ، ابن أبي حاتم والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه ، قاله ابن كثير .
قال بعض العلماء : والقرآن العظيم يدل على أنها في اليهود ; لأنه تعالى ذكر فيما قبلها أنهم يحرفون الكلم من بعد مواضعه ، وأنهم يقولون إن أوتيتم هذا ، يعني الحكم المحرف الذي هو غير حكم الله فخذوه ، وإن لم تؤتوه أي المحرف ، بل أوتيتم حكم الله الحق فاحذروا ، فهم يأمرون بالحذر من حكم الله الذي يعلمون أنه حق .
[ ص: 406 ] وقد قال تعالى بعدها وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس الآية [ 5 \ 45 ] ، فدل على أن الكلام فيهم ، وممن قال بأن الآية في أهل الكتاب ، كما دل عليه ما ذكر ، البراء بن عازب ، وحذيفة بن اليمان ، وابن عباس وأبو مجلز ، ، وأبو رجاء العطاردي وعكرمة ، ، وعبيد الله بن عبد الله وغيرهم ، وزاد والحسن البصري الحسن ، وهي علينا واجبة ، نقله عنهم ابن كثير ، ونقل نحو قول الحسن عن . إبراهيم النخعي
وقال القرطبي في تفسيره : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون و الظالمون و الفاسقون [ 5 \ 44 ، 45 ، 47 ] ، نزلت كلها في الكفار ، ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء وقد تقدم ، وعلى هذا المعظم ، فأما ، وقيل فيه إضمار ، أي المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة ومن لم يحكم بما أنزل الله ، ردا للقرآن وجحدا لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر ، قاله ابن عباس ومجاهد .
فالآية عامة على هذا ، قال ، ابن مسعود والحسن : هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين ، واليهود ، والكفار ، أي معتقدا ذلك ومستحلا له .
فأما من فعل ذلك ، وهو معتقد أنه مرتكب محرم فهو من فساق المسلمين وأمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له .
وقال في رواية : ابن عباس ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلا يضاهي أفعال الكفار ، وقيل : أي ومن لم يحكم بجميع ما أنزل فهو كافر فأما من حكم بالتوحيد ، ولم يحكم ببعض الشرائع فلا يدخل في هذه الآية ، والصحيح الأول إلا أن قال : هي في الشعبي اليهود خاصة ، واختاره النحاس ، قال : ويدل على ذلك ثلاثة أشياء :
منها أن اليهود ذكروا قبل هذا في قوله تعالى : للذين هادوا [ 5 \ 44 ] فعاد الضمير عليهم .
ومنها أن سياق الكلام يدل على ذلك ، ألا ترى أن بعده وكتبنا عليهم ، فهذا الضمير لليهود بإجماع ، وأيضا فإن اليهود هم الذين أنكروا الرجم والقصاص ، فإن قال قائل " من " إذا كانت للمجازاة فهي عامة إلا أن يقع دليل على تخصيصها ، قيل له : " من " هنا بمعنى الذي ، مع ما ذكرناه من الأدلة والتقرير ; واليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، فهذا من أحسن ما قيل في هذا .
[ ص: 407 ] ويروى أن حذيفة سئل عن هذه الآيات ، أهي في بني إسرائيل ، فقال : نعم هي فيهم ، ولتسلكن سبيلهم حذو النعل بالنعل ، وقيل : الكافرون للمسلمين ، والظالمون لليهود ، والفاسقون للنصارى ، وهذا اختيار ، قاله : لأنه ظاهر الآيات ، وهو اختيار أبي بكر بن العربي ، ابن عباس ، وجابر بن زيد ، وابن أبي زائدة ، وابن شبرمة أيضا قال والشعبي وغيره : ليس بكفر ينقل عن الملة ، ولكنه كفر دون كفر . طاوس
وهذا يختلف إن حكم بما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل له يوجب الكفر ، وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين ، قال القشيري : ومذهب الخوارج أن فهو كافر ، وعزا هذا إلى من ارتشى ، وحكم بحكم غير الله الحسن ، والسدي ، وقال الحسن أيضا : أخذ الله على الحكام ثلاثة أشياء : ألا يتبعوا الهوى ، وألا يخشوا الناس ويخشوه ، وألا يشتروا بآياته ثمنا قليلا ، انتهى كلام القرطبي .
قال مقيده - عفا الله عنه - : الظاهر المتبادر من سياق الآيات أن آية فأولئك هم الكافرون ، نازلة في المسلمين ; لأنه تعالى قال قبلها مخاطبا لمسلمي هذه الأمة : فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ، ثم قال : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، فالخطاب للمسلمين كما هو ظاهر متبادر من سياق الآية ، وعليه فالكفر إما كفر دون كفر ، وإما أن يكون فعل ذلك مستحلا له ، أو قاصدا به جحد أحكام الله وردها مع العلم بها .
أما من حكم بغير حكم الله ، وهو عالم أنه مرتكب ذنبا ، فاعل قبيحا ، وإنما حمله على ذلك الهوى فهو من سائر عصاة المسلمين ، وسياق القرآن ظاهر أيضا في أن آية : فأولئك هم الظالمون ، في اليهود ; لأنه قال قبلها : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون .
فالخطاب لهم لوضوح دلالة السياق عليه كما أنه ظاهر أيضا في أن آية : فأولئك هم الفاسقون في النصارى ; لأنه قال قبلها : وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون .
واعلم أن تحرير المقام في هذا البحث أن الكفر ، والظلم ، والفسق ، كل واحد منها [ ص: 408 ] ربما أطلق في الشرع مرادا به المعصية تارة ، والكفر المخرج من الملة أخرى : ومن لم يحكم بما أنزل الله ، معارضة للرسل وإبطالا لأحكام الله ، فظلمه وفسقه وكفره كلها كفر مخرج عن الملة ، ومن لم يحكم بما أنزل الله معتقدا أنه مرتكب حراما فاعل قبيحا فكفره وظلمه وفسقه غير مخرج عن الملة ، وقد عرفت أن ظاهر القرآن يدل على أن الأولى في المسلمين ، والثانية في اليهود ، والثالثة في النصارى ، ، وتحقيق أحكام الكل هو ما رأيت ، والعلم عند الله تعالى . والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب