والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها
[ ص: 423 ] لما كان طمع البشر في المال لا حد له ، وقد يكون الغني أشد طمعا فيه من الفقير ، وكان ضعيف الإيمان لا يرضيه قسمة الرسول المعصوم له إذا لم يعطه ما يرضي طمعه ، وكان غير المعصوم من أولياء الأمور ، ومن الأغنياء عرضة لاتباع الهوى في قسمة الصدقات ، بين الله تعالى مصارفها بنص كتابه فقال : إنما الصدقات للفقراء والمساكين هذه الآية ناطقة بوجوب قصر الصدقات الواجبة ، وهي زكاة النقود عينا أو تجارة والأنعام والزرع والركاز والمعدن على الأصناف السبعة أو الثمانية المنصوصة فيها دون غيرهم ، وهي حجة على من لمز النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المنافقين بعد إعطائهم منها - وهم ليسوا منهم - وقاطعة لأطماع أمثالهم . و " اللام " في قوله : ( للفقراء ) للملك وللاستحقاق ، أو بتقدير مفروضة كما يدل عليه قوله في آخر الآية : فريضة من الله وسيأتي حكم سائر المعطوفات .
وجمهور الفقهاء على أن الفقراء والمساكين صنفان مستقلان ، وقد اختلفوا في تعريف كل منهما بما ذهب به بعضهم إلى أن أسوأ حالا وأشد حاجة من المسكين ، وبعضهم إلى العكس ، وجعلوا ذلك من تقاليد المذاهب التي يتعصب لها بعضهم على بعض . ويرى بعض العلماء المستقلين أنهما قسمان لصنف واحد يختلفان بالوصف لا بالجنس وهو المختار لنا ، ولم يجمع الذكر الحكيم بينهما إلا في هذه الآية ، ويكفي من دلالة العطف فيها على المغايرة ما اخترناه في تغيرهما في الوصف . فالفقير في اللغة خلاف الغني ومقابله مقابلة التضاد كما يدل عليه قوله تعالى : الفقير إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ( 4 : 135 ) وقوله : ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ( 4 : 6 ) وقوله : إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ( 24 : 32 ) والغني المطلق هو الله تعالى ، وكل عباده فقير إليه كما قال : والله الغني وأنتم الفقراء ( 47 : 38 ) وأما فقر الناس بعضهم إلى بعض فهو أمر نسبي ، فما من غني إلا وهو مفتقر إلى غيره ممن فوقه وممن دونه أيضا ، ولكن ذكر الفقير في مقابلة الغني أو إطلاق ذكره ، يدل على المحتاج في معيشته إلى مواساة غيره ؛ لعدم وجود ما يكفيه بحسب حاله ، ويطلق الفقير في اللغة على الكسير الفقار ومن يشتكي فقاره - وهي جمع فقرة وفقارة ( بفتحهما ) عظام الظهر المنضودة من لدن الكاهل إلى عجب الذنب في الصلب - وهذا هو المعنى الأصلي ، والمعنى الأول مأخوذ منه ، كما قيل : ومنه الفاقرة وهي الداهية أو المصيبة التي تكسر فقار الظهر .
وأما فمأخوذ من مادة السكون المراد به قلة الحركة والاضطراب الحسي من الضعف والعجز ، أو النفسي من القناعة والصبر ، وإنما يطلق على الفقير إذا كان الفقر سبب سكونه . قال في الصحاح : المسكين الفقير وقد يكون بمعنى الذلة والضعف اهـ . المسكين
. [ ص: 424 ] وقال بعضهم : إنه الفقير القانع الذي لا يسأل ، وقيل خلاف ذلك ، والأول أولى . وقالوا : إن لفظ المسكين يستعمل بمعنى الذليل والضعيف ، وبمعنى المتواضع المخبت ، والخاشع لله تعالى ، ومقابله الجعظري الجواظ المتكبر ، ويقال : سكن الرجل وتسكن وتمسكن إذا صار مسكينا . ولكن صيغة تمسكن يدل على تكلف المسكنة ومحاولتها بالتخلق والتعود . وقال اللحياني : تمسكن لربه : تضرع . وفي الحديث المرفوع : " " رواه اللهم أحيني مسكينا وتوفني مسكينا ، واحشرني في زمرة المساكين ابن ماجه والحاكم من حديث ـ رضي الله عنه ـ ، وصححه وأقره أبي سعيد الخدري الذهبي ولكن ضعفه النووي ، ورواه الترمذي من حديث أنس بسند ضعيف . وقال : إنه موضوع وخطأه ابن الجوزي السيوطي ، وفيه زيادة عند الحاكم ، وأخرى عند الترمذي ، وقد ثبت عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كان يستعيذ بالله من الفقر ، وقد امتن عليه ربه بقوله : ووجدك عائلا فأغنى ( 93 : 8 ) فلا يعقل هذا أن يسأله أشد الفقر ، وقد عاش ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكفيا ومات مكفيا .
وقال الفيروزابادي : والمسكين من لا شيء له أو الفقير المحتاج . والمسكين من أذله الفقر أو غيره من الأحوال اهـ . قال شارحه قال : فإذا كانت مسكنته من جهة الفقر حلت له الصدقة ، وكان فقيرا مسكينا ، وإذا كان مسكينا قد أذله سوى الفقر فالصدقة لا تحل له ؛ إذ كان شائعا في اللغة أن يقال : ضرب فلان المسكين وظلم المسكين - وهو من أهل الثروة واليسار - وإنما لحقه اسم المسكين من جهة الذلة ، فمن لم تكن مسكنته من جهة الفقر فالصدقة عليه حرام اهـ . ابن عرفة
فعلم من هذا كله أن الفقير في اللغة المحتاج ، وهو ضد الغني أي المكفي ما يحتاج إليه ، من الغناء ( بالفتح ) وهو الكفاية ، وأن المسكين وصف من السكون يوصف به الفقير وغيره . وقد اختلف العلماء فيه : هل هو أسوأ حالا وأشد حاجة من الفقير أو أحسن كما تقدم ؟ ويقال في الترجيح بين القولين زيادة عما قلناه في الحديث آنفا : إما أن يكون المسكين في الآية صنفا مستقلا مباينا للفقير ، وإما أن يكون أخص منه ؛ لأن المسكنة فيه وصف للفقير ، كما ذكر الوجهين وغيره ، فإن كان صنفا مستقلا وجب أن يكون غير فقير ؛ لأن وصف المسكنة فيه لم يكن له بسبب فقره بل بتواضعه وأدبه مثلا ، كما هو المراد بدعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي ذكرناه آنفا ، فكيف يكون أسوأ من الفقير في شدة الحاجة التي يستحق بها الصدقة ؟ وإن كان أخص من الفقير بوصف المسكنة التي كان سببها الفقر ، فلا يظهر أن يكون المراد بها شدة الفقر وسوء الحال فيه ؛ لأن ذكر الفقراء في هذه الحالة يغني عن ذكر المساكين ؛ لأنه يشملهم بعمومه لهم ، ويكون استحقاق الشديد الفقر للصدقة أولى من استحقاق من دونه فيه . فلا يصح في الكلام البليغ أن يقال : أعط هذه الصدقة [ ص: 425 ] أو أطعم هذا الطعام للفقراء ولأشد الناس فقرا ؛ لأن ذكر أشدهم فقرا بعد ذكر الفقراء يكون لغوا ، إلا أن يراد به الإضراب عما قبله ، وحينئذ يقال : بل لأشدهم فقرا ، ولا يظهر هنا إرادة التأكيد للاهتمام ، فترجح أو تعين أن يراد بالمساكين من جعلتهم مسكنة الفقر أقل اضطرابا فيه ، وأكثر تجملا وسكونا لخفته عليهم وعدم وصوله بهم إلى الدرجة التي لا تطاق ، ولا يمكن إخفاؤها بالتجمل ، ولا يرد على هذا قوله تعالى : ابن عرفة أو مسكينا ذا متربة ( 90 : 16 ) لأن شدة الحاجة الملصقة بالتراب لا تنافي التجمل والتعفف . ويدل على هذا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : اقرؤوا إن شئتم : ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ، ولا اللقمة واللقمتان ، إنما المسكين الذي يتعفف لا يسألون الناس إلحافا ( 2 : 273 ) وفي لفظ : " " والحديث بلفظيه متفق عليه ، وهو صريح فيما اخترناه . وإنما أطلنا في المسألة ؛ لتفنيد ما أطاله فيها كثير من المقلدين . ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس
فالفقراء في آية الصدقات هم المستحقون لها بفقرهم ، كما قال في آية سورة البقرة : إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ( 2 : 271 ) و للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا ( 2 : 273 ) وكما قال في مال الفيء من سورة الحشر : ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ( 59 : 7 ) إلى آخر الآية . ثم خص المساكين من الفقراء بالذكر ؛ لأنهم ربما لا يفطن لهم لتجملهم .
لمعاذ لما بعثه إلى اليمن واليا وقاضيا : " إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم ، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " رواه الجماعة كلهم من حديث وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ رضي الله عنه ـ وكرائم أموال الناس خيارها ونفائسها التي تضن النفس بها ، فلا يجوز للحكام والعاملين على الصدقات أخذها في الصدقة لتعطى للفقراء ، ولا بالرشوة المحرمة بالأولى . والمساكين يدخلون في عموم الفقراء في هذا الحديث وأمثاله كالآيات لغة ، وحيث يذكر المسكين أو المساكين في القرآن يراد به ما يعم الفقراء بالتغليب أو بطريق الأولى ؛ إذ ورد ذلك في الأمر بالإحسان بهم ، وفي كفارات الظهار واليمين وصيد الحرم والغنائم وصدقة التطوع ، فهما صنفان لجنس أو نوع واحد من [ ص: 426 ] المستحقين . وجملة القول أن بين الفقير والمسكين عموما وخصوصا وجهين في اللغة ، وعموما وخصوصا مطلقا في استعمال الشرع للفظين في آية الصدقات الجامعة بينهما ، وحيث يذكر أحدها وحده يراد به ما يعم الآخر ، فاللفظان مختلفان في مفهومهما ، متحدان فيما يصدقان عليه ، وما يعطاه الفقير والمسكين من الصدقة يختلف باختلاف الأحوال ، ومقدار المال ، وهو خاص بالمسلمين بخلاف صدقة التطوع . ابن عباس