مسألة : قال الشافعي : " والرقاب المكاتبون من حيز إنما الصدقات والله أعلم ، ولا يعتق عبد يبتدأ عتقه فيشترى ويعتق " .
قال الماوردي : وهذا صحيح لقوله تعالى والرقاب صنف من أهل الصدقات ، وفي الرقاب [ ص: 503 ] فاختلف الفقهاء فيهم ، فذهب الشافعي إلى أنهم المكاتبون يعطون المسمى لهم يستعينون به في مال كتابتهم ولا يبتدئ عتق رقاب تشترى ، وهو في الصحابة قول علي بن أبي طالب - عليه السلام - ، وفي التابعين قول سعيد بن جبير والنخعي ، وفي الفقهاء قول أبي حنيفة والثوري .
وقال مالك : الرقاب أن يبتدأ عتق رقاب تشترى . وهو في الصحابة قول عبد الله بن عباس ، وفي التابعين قول الحسن البصري ، وفي الفقهاء قول أحمد وإسحاق استدلالا بقوله تعالى : وفي الرقاب وفيها ثلاثة أدلة :
أحدها : أن مطلق اسم الرقبة يتناول العبد القن دون المكاتب ؛ بدليل قوله تعالى : تحرير رقبة يقتضي عتق العبد القن دون المكاتب .
والثاني : أن الله تعالى أضاف سهمان الصدقات إلى الأصناف بلام التمليك : " إنما الصدقات للفقراء " وخالف صيغة اللفظ في الرقاب بأن حذف لام التمليك ، فقال وفي الرقاب فجعل ذلك فيهم ولم يجعله لهم ، فاقتضى ألا يملكه المكاتبون ويشترى به عبيد يعتقون ليصح أن يكون فيهم ولا يكون لهم .
والثالث : أن المكاتبين من جملة الغارمين ، فلو أريدوا بالآية لاكتفى بذكر الغارمين عن ذكرهم ، ولأن ما وجب من أموال الطهرة نوعان : زكوات ، وكفارات ، فلما كان في الكفارات عتق وجب أن يكون في الزكوات عتق .
وتحريره : أنه أحد نوعي الطهرة ، فوجب أن يختص بعتق ويفرقه كالكفارات ودليلنا وفي الرقاب [ التوبة : 60 ] ، ومنها سبعة أدلة : قوله تعالى :
أحدها : أن الله تعالى جعل ذلك في الرقاب لا في السادة وملكه يجعله في السادة لا في الرقاب .
والثاني : أن سائر الأصناف لما استحقوا الأخذ وجب أن يكون صنف الرقاب مستحقا الأخذ .
والثالث : أن الله تعالى ذكر في الآية ثمانية أصناف وقرن فيها بين كل صنفين يتقارب معناهما فنقارب في حاجتنا إليهم ، وفرق بين سبيل الله وابن السبيل : لأن معناهما متقارب في اختصاصهم بقطع مسافة ، وفرق بين الرقاب والغارمين ، فوجب أن يكون معناهما متقاربا ، فلما أخذ الغارمون لما في الذمة اقتضى أن يأخذ الرقاب لما في الذمة .
والرابع : أن الله تعالى جعل المصروف إلى الأصناف صدقة وفي صرفه في العتق يصير ثمنا يخرج عن حكم الصدقة .
والخامس : أن الله تعالى جعل كل صنف من أهل الصدقة ممن يمكن دفع سهمه إليه [ ص: 504 ] من كل صدقة ولا يمكن إذا جعل سهم الرقاب في العتق أن يعتق سهمهم من كل صدقة ، وإذا جعل في المكاتبين أمكن أن يدفع إليهم من كل صدقة .
والسادس : أنه لو صرف سهم الرقاب في مكاتبين وبقي عليهم من آخركم آخر نجم ما يعتقون به فأعطوا ما عتقوا به أجزأ ، ولو خرجوا من حكم الآية لم يجز كالعتق في الكفارة فدل على أنهم المراد بالآية .
والسابع : أن الله تعالى لو أراد بالرقاب المعتق لقرنه بذكر التحرير كالكفارة حيث قال : فتحرير رقبة مؤمنة ولا يقتضي أن يحمل مطلق الرقاب في الصدقة على المقيد منها في الكفارة : لأن في المطلق في الرقاب ما يجزئ وهو ما ذكرنا من المكاتبين ، فكان حمل المطلق على المطلق أولى من حمله على المقيد ، وخالف تقييد الشهادة بالعدالة في موضع وإطلاقها في آخر : لأنه ليس في الشهادة مال يعتبر فيه العدالة : فلذلك وجب حمل المطلق على المقيد ، ويدل عليه من طريق الاعتبار أنه صنف من أهل الصدقة ، فوجب أن يكونوا على صفة يستحقون بها الأخذ قياسا على سائر الأصناف ، ولأن فلو أعتق سهم الرقاب لم يخل أن يثبت على المعتق ولاء أو لا يثبت ، فإن لم يثبت عليه وإلا سلب حكم العتق . العتق يقتضي ثبوت الولاء للمعتق ،
وقد قال النبي - صلي الله عليه وسلم - : ، وإن ثبت عليه الولاء لم يخل أن يكون لرب المال أو لغيره فلم يجز أن يكون لغيره : لأنه غير معتق بماله ولم يجز أن يكون لرب المال لأمرين : الولاء لمن أعتق
أحدهما : أنه ما اشتراه ولا اشتري له .
والثاني : أنه لا يستفيد بإخراج زكاته ملكا كسائر الأصناف فثبت امتناع العتق .
فإن قيل : فلو جاز أن يستعيده من دينه فيصير ملكا له . أخذ الغارم سهمه وعليه لرب المال دين
قيل : ليس هذا في كل غارم ولا الغارم الذي عليه الدين يلزمه رد ذلك بعينه : لأنه لو دفع غيره أجزأ .
فأما الجواب عن استدلالهم من الآية من أن مطلق الرقبة يتناول العبد القن دون المكاتب فهو أن ادعاء ذلك غير مسلم : لأنه إن أطلق تناولت القن وغيره ، وإن قيد بقرينة كالتحرير تخصص لأجل القرينة بالقن دون غيره ، فلما أطلق ذكر الرقاب في الصدقة وجب أن يحمل على عمومه ولا يجري مجرى ما خص في الكفارة بقرينة .
وأما الجواب عن استدلالهم من الآية بأن الله تعالى أضاف الصدقات إلى أهل [ ص: 505 ] السهمان بلام التمليك إلا الرقاب فهو أنه قد قال مثل ذلك في الغزاة وبني السبيل فقال : وفي سبيل الله وابن السبيل لا يقتضي ذلك ألا يدفع إليهم تمليكا ، كذلك الرقاب .
وأما الجواب عن استدلالهم فيها بأن فمن وجهين : المكاتبين من جملة الغارمين
أحدهما : أنهم غير الغارمين : لأن ديونهم غير مستقرة وديون الغارمين مستقرة .
والثاني : أنهم وإن تقاربوا في المعنى فإنه يستفاد بذكرهم ألا يقتصر على الغارمين لو لم يذكروا وعليهم دون الغارمين لأنهم منهم ، وجرى ذلك مجرى ذكر الفقراء والمساكين ، وإن كانوا متقاربين يستغنى بذكر أحدهما عن ذكر الآخر : لئلا يقتصر على أحدهما حتى يلزم الجمع بينهما .
وأما الجواب عن استدلالهم بالكفارات فهو أن المأمور بإخراجه في الكفارات هو العتق ، لذلك لو أعتق رقبة يملكها أجزأه ، والمأمور بإخراجه في الصدقات هو المال ، ولذلك لو أعتق رقبة يملكها لم يجزه فافترقا .