الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الخشية .. زاد الفقيه

الخشية .. زاد الفقيه

الخشية .. زاد الفقيه

الأمور لا تعتبر إلا بمقاصدها، وكل عمل ليس له ثمرة فهو عبث وسدى، ومن الغبن أن ينفق المرء سنين عمره فيما لا جدوى منه، وإنما شرف العلم لأن يشرف العمل ويعلي قدره، ولولا العلم لما قامت أمم ولا شيدت حضارات، فالعلم زينة الدنيا إذا خالط إيمانا راسخا رسوخ الجبال، لذلك نالت المذلة كل من رفعه العلم ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه، فالعلماء المتقون هم ورثة الرسل وصفوة البشر ودعامة التقدم، فعلم يبارك الله في ثمرته خير من ملء الأرض ذهبا وفضة.

عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) [رواه ابن ماجة]
قال مجاهد: الفقيه من يخاف الله عز وجل.
وعن الربيع بن أنس قال: من لم يخش الله تعالى فليس بعالم.
وعن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- قال: ألا أخبركم بالفقيه، من لم يقنط الناس من رحمة الله، ومن لم يؤمنهم من مكر الله، ولم يرخص لهم في المعاصي، ولم يدع القرآن رغبة إلى غيره.
وقال ابن مسعود – رضي الله عنه-: كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار به جهلا.
وقال أيضا: ليس العلم عن كثرة الحديث، ولكن العلم عن كثرة الخشية.

وروي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: إن الفقه ليس بكثرة السرد، وسعة الهذر، وكثرة الرواية، وإنما الفقه خشية الله عز وجل.
وقيل لسعد بن إبراهيم: من أفقه أهل المدينة ؟ قال أتقاهم لربه عز وجل.
وقال الحسن البصري: العالم من خشي الرحمن بالغيب ورغب فيما رغب الله فيه، وزهد فيما سخط الله عنه، ثم تلا قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}[فاطر:28].
وقال سفيان الثوري عن أبي حيان التيمي عن رجل قال: كان يقال العلماء ثلاثة: عالم بالله, عالم بأمر الله, وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله, وعالم بأمر الله, ليس بعالم بالله, فالعالم بالله وبأمر الله الذي يخشى الله تعالى ويعلم الحدود والفرائض, والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود ولا الفرائض, والعالم بأمر الله ليس العالم بالله الذي يعلم الحدود والفرائض ولا يخشى الله عز وجل.

وقال أحد العلماء: إن كمال علم العالم ثلاثة: ترك طلب الدنيا بعلمه، ومحبة الانتفاع لمن يجلس إليه، ورأفته بالناس.
وروي عن مطر الوراق قال: سألت الحسن عن مسألة فقال فيها، فقلت يا أبا سعيد: يأبى عليك الفقهاء، فقال الحسن: ثكلتك أمك يا مطر، وهل رأيت فقيها قط؟ الفقيه الورع الزاهد المقيم على سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي لا يسخر بمن أسفل منه، ولا يهزأ بمن فوقه، ولا يأخذ على علم علمه الله إياه حطاما.

وعن الحسن قال: الفقيه المجتهد في العبادة، الزاهد في الدنيا، المقيم على سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وعنه أيضا أنه قال: الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير في دينه، المجتهد في العبادة.
وعن وهب بن منبه قال: الفقيه العفيف المتمسك بالسنة أولئك أتباع الأنبياء.
وقال غيره: إن الفقيه كل الفقيه من فقه في القرآن وعرف مكيدة الشيطان.
وقال الفضيل بن عياض: إنما الفقيه الذي أنطقته الخشية، إن قال قال بالكتاب، وإن سكت سكت بالكتاب، وإن اشتبه عليه شيء وقف عنده ورده إلى عالمه.

وعن الحسن قال: إنا لنجالس الرجل فنرى أن به عيا، وما به عي وإنه لفقيه مسلم أسكتته الخشية.
وقال الشعبي: لسنا بعلماء ولا فقهاء، ولكننا قوم قد سمعنا حديثا فنحن نحدثكم بما سمعناه، إنما الفقيه من ورع عن محارم الله، والعالم من خاف الله عز وجل.
واستفتى رجل الشعبي فقال أيها العالم أفتني، فقال: إنما العالم من يخاف الله.
وعن جابر أنه تلا قوله تعالى {وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت:43] فقال: العالم الذي عقل عن الله أمره، فعمل بطاعة الله واجتنب سخطه.

وسئل عبد الله بن المبارك هل للعلماء علامة يعرفون بها؟ قال: علامة العالم من عمل بعلمه، واستقل كثير العلم والعمل من نفسه، ورغب في علم غيره، وقبل الحق من كل من أتاه به، وأخذ العلم حيث وجده، فهذه علامة العالم وصفته، قال المروذي: فذكرت ذلك لأبي عبد الله أحمد بن حنبل فقال هكذا هو.

وقيل لابن المبارك: كيف يعرف العالم الصادق؟ فقال: الذي يزهد في الدنيا، ويعقل أمر آخرته.
وقال الزهري: لا نثق للناس بعمل عامل لا يعلم، ولا نرضى لهم بعلم عالم لا يعمل.
وقال الحسن: كان الرجل إذا طلب بابا من العلم لم يلبث أن يرى أثر ذلك في تخشعه وبصره ولسانه ويده وزهده وصلاته وبدنه، وإن كان الرجل ليطلب الباب من العلم فلهو خير له من الدنيا وما فيها.

وروي عن أحد العلماء أنه قال: أدركت الفقهاء بالمدينة يقولون: لا يجوز للرجل أن ينصب نفسه للفتوى، ولا يجوز أن نستفتي إلا الموثوق في عفافه وعقله وصلاحه ودينه وورعه وفقهه وحلمه ورفقه وعلمه بأحكام القرآن والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ، عالما بالسنة والآثار وبمن نقلها والمعمول به منها والمتروك، عالما بوجوه الفقه التي فيها الأحكام، عالما باختلاف الصحابة والتابعين، فإنه لا يستقيم أن يكون صاحب رأي وليس له علم بالكتاب والسنة والأحاديث والاختلاف، ولا صاحب حديث ليس له علم بالفقه والاختلاف ووجوه الكلام فيه، وليس يستقيم واحد منهما إلا بصاحبه، ومن كان من أهل العلم والفقه والصلاح بهذه المنزلة إلا أن طعمته من الناس وحاجته منزلة بهم، وهو محمول عليهم، فليس بموضع الفتوى ولا موثوق في فتواه ولا مأمون على الناس فيما اشتبه عليهم.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "على كل مؤمن أن لا يتكلم في شيء من الدين إلا تبعا لما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا يتقدم بين يديه، بل ينظر ما قال، فيكون قوله تبعا لقوله وعمله تبعا لأمره، فهكذا كان الصحابة ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين.
قال الجنيد: الخشوع تذلل القلوب لعلام الغيوب.

إنما الخشية في القلب
ولقد أجمع العارفون على أن الخشوع محله القلب، فالعلم النافع هو ما باشر القلب فأوجب له السكينة والخشية والإخبات لله والتواضع والانكسار، فعن أسماء بنت أبي بكر الصديق – رضي الله عنها- قالت: كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله، تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم، قيل لها: فإن أناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خر أحدهم مغشيا عليه، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

وقال سعيد بن عبد الرحمن الجمحي: مر ابن عمر برجل من أهل القرآن ساقط، فقال ما بال هذا، قالوا إنه إذا قرئ القرآن عليه وسمع ذكر الله سقط، فقال ابن عمر إنا لنخشى الله وما نسقط، ثم قال: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم، وما كان هذا صنيع أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -.

وقال عمر بن عبد العزيز –رضي الله عنه-: ذكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن، فقال: بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطا رجليه، ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره، فإن رمى بنفسه فهو صادق.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة