الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

نظرة في مشكلة الفقر

نظرة في مشكلة الفقر

نظرة في مشكلة الفقر

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا محمد وآله وصحبه.. وبعد:
فيقول الله تعالى في سورة الزخرف: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}(الزخرف:32).

هذه الآية الكريمة من تأملها تمام التأمل، وفهم ما فيها حق الفهم، وجدها تثبت مبدأ التفاوت في الرزق، والاختلاف في المعيشة، وتشير إلى الفقر والغنى على أنهما من مستلزمات الحياة الأرضية، والمصالح المعاشية والعمرانية، وأن هذا أمر قدره الله لحكمة بالغة تضع حدا لكل تنازع طبقي، وتناحر مادي، وتفصل بين حياة الجشع والأحقاد، وحياة القناعة والرضى بما قسمه رب العباد..

سنة كونية
والفقر في حد ذاته سنة كونية قديمة، اعترت الإنسانية منذ نشأتها الأولى، وهو صورة من صور الابتلاء الرباني لأهله من أهل الفقر ولمن يشاركونهم حياة الأرض من الأغنياء، وكان له أثر على أهله وغيرهم لما نجم عنه من فروق خطيرة، وتفاوتات في مستوى المعايش صغيرة كانت أو كبيرة.. كما وأن الغنى هو من سنن الكون أيضا، وأغراض الحياة، وطبيعة الأشياء في الأرض، وكان من نتائجه وآثاره عند البعض، ترف وفسوق وطغيان، وانحراف عن الحق وبغي وعدوان.

ولقد جاءت الرسالات الإلهية المتعاقبة حاملة من الآداب والتعاليم ما يحد من طغيان الأغنياء، ويهذب من أحقاد الفقراء، ويدعو إلى التعايش والتكافل بين الفريقين، مما يقرب الفوارق، ويقصر التباعد، ويمنع التصادم والعداء.

ولما جاء الإسلام اعترف بالواقع الأزلي، وأقر بتفاوت الناس في الرزق، وبين في منتهى الصراحة والوضوح أن المجتمع البشري فيه ذلك الغني الذي بسط له في رزقه، وتوافرت لديه أسباب الترف ووسائل الثراء، كما أن فيه الفقير الذي قدر عليه زرقه، أو عزت عليه أسباب كسبه، فعاش في كد وشقاء، وحرمان وعناء.

يقرر الإسلام ذلك لأن فيه مصلحة المجتمع، وعليه يقوم نظام الحياة، وعمارة الكون، وقضاء المصالح، مما لا ينكره عاقل، ولا يتجاهله إلا مكابر أو غافل، ويقرر أن الرزق بيد الله تعالى لا دخل له في حظ أو قوة أو نفوذ؛ قال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(العنكبوت:62)، وقال سبحانه: {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق}(النحل:71)، وقال جل شأنه: {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}(الذاريات:58)، وقال عز وجل: {الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز}(الشورى:19 ) أي يوسع رزق من يشاء ويريد إذا علم مصلحة في ذلك.

وأشار سبحانه وتعالى إلى حكمة وجود الفقر في الحياة فقال: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ ـ أي لو أغناهم جميعا ـ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ ـ أي تقدير ـ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ}(الشورى:27)، أي أنه سبحانه يعلم أحوالهم فيقدر لهم من الرزق ما تقتضيه حكمته البالغة، فيفقر ويغني، ويمنع ويعطي، ويقبض ويبسط، ولو أغناهم جميعا لبغوا في الأرض وظلموا، ولو أفقرهم جميعا لضاعوا وهلكوا، وقد روي في بعض الآثار كما في الحلية لأبي نعيم بسند ضعيف: [إن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين، من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك].

تدابير للعلاج
ولكن إذا كان الإسلام قد اعترف بوجود الغنى المكثر والفقير المقل، فإن الذي يرفض الاعتراف به، وينكره أشد الإنكار، أن يطغى الغني في غناه، وأن يعيش عيشة البذخ والسرف والترف، في حين أن الفقير يحيا حياة الفاقة والحرمان، ثم لا يؤدي إليه حقا، ولا يمد لإسعافه يدا، ولا يخفف عنه عبء الفقر، ووطأة البؤس، بحجة أن الله أفقره، ولو شاء لأغناه. كما حكى الله تعالى عنهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}(يس:47).

ولقد عالج الإسلام مشكلة الفقر فشرع الأحكام، وأوجب الحقوق، لتخفيف وطأته، ومحو آثاره السيئة في النفس والمجتمع، واجتياح مظاهر البؤس والشقاء في الحياة. وفرض للنهوض بالفقراء وجبر كسرهم ودحر العدم والفاقة عنهم حقوقا وواجبات، وتبعات ومسؤوليات، وجعل الزكاة، التي هي حق معلوم في أموال الأغنياء، ركنا من أركان الدين، وفريضة من فروض الإيمان.

إن الإسلام لا يحابي الأغنياء على حساب الفقراء، ولا يخدر البائسين والمحرومين بجناته الموعودة لقاء رضاهم بظلم اجتماعي أو طغيان مادي، أو تحكم طبقي وإقطاعي.
إنه يشدد النكير على الأغنياء، ويأخذ من أموالهم بالقدر الذي يفي بحاجة فقرائهم، وينفي الإيمان عن أحدهم إذا بات شبعان وجاره جائع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما آمن بي من بات شبعانا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم ](رواه البزار وغيره، وحسنه ابن حجر والألباني والهيثمي وغيرهم).

خاتمة
فبالتعاون الوثيق، والإخاء الصحيح، والتكافل والإيثار، أقام الإسلام العدالة الاجتماعية لمواجهة الفقر، ومحو آثاره البائسة الشقية، وأحقاده الثائرة العاتية التي إذا ما تركت وشأنها سرعان ما تهب كالصواعق تدمر المجتمع وتهلك الحرث والنسل، وتزرع في الأرض الفساد.

وإلى جانب ذلك رغب الإسلام في العمل وأمر به، ودعا إلى الكسب الحلال وأثاب عليه، وحذر من البطالة والتواكل، واستعاذ من الفقر، وبغضه في نفوس المسلمين، وبهذا يكون الإسلام قد عالج مشكلة الفقر معالجة موضوعية، نظرية وعملية، وقضى على مظاهر البؤس والحقد لدى الفقراء، واستأصل شأفة الشح لدى الأغنياء، وربط بين الجميع برباط الأخوة والإيمان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه](متفق عليه).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

خواطـر دعوية

المواساة خلق أهل المروءة

"المواساة" خلق نبيل، من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات التي دعا إليها الإسلام، وهو من أخلاق المؤمنين، وجميل...المزيد