الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

المسلم بين الخلطة والعزلة

المسلم بين الخلطة والعزلة

المسلم بين الخلطة والعزلة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه،أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فاتقوا الله رحمكم الله، وعظموا أمرَه وحرماتِه، الزموا الإخلاص في الطاعة، وتمسّكوا بطريق أهل السنة والجماعة، وحافظوا على الجُمَع والجماعة، تفوزوا بأربح بضاعة، وإن امرأً تنقضي بالجهالة ساعاتُه وتذهبُ بالتقصير أوقاتُه لخليقٌ أن تجريَ دموعُه، وحقيق أن يقلّ في الدجى هجوعه.
أيها المسلمون، جرت سنةُ الله -عز وجل- في خلقه أن لا يقوم لهم معاش ولا تستقيم لهم حياة إلا بالاجتماع والتآلف {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

إن نزعةَ التعرُّف إلى الناس والاختلاط بهم نزعةٌ أصيلة في التوجيهات الإسلامية. بالعيش مع الجماعة والانتظام وحسن العلاقة تستقرُّ النفوس، وتصحّ العلوم، وتنتشر المعارف، وتبلغ المدينة الفاضلة أشدَّها، فيُعبدَ الله على بصيرة، وتتَّضح معالم الدين، ويسودَ المعروف، ويقلّ المنكر.
إن إيثارَ الإسلام للاجتماع يظهر في كثير من أحكامه وآدابه، إن العبادات وهي من أشرف المطلوبات ليست انقطاعًا في دير، أو تعبداً في صومعة. لماذا شُرعت الجماعات في الصلوات؟ ولمن فُرضت الجمعات؟ وما الحكمة في العيدين والاستسقاء، والكسوف والجنائز، ثم إجابة الدعوات في الولائم والمناسبات، والاجتماع في أوقات السرور والمباهج، وفي أوقات الشدائد والمكاره، في الأعياد والتعازي، وعيادة المرضى، وتشييع الجنائز؟ إن ذلك كلَّه لا يتحقَّق على وجهه إن لم تتوثّق في الأمة العلاقات، وتُحفَظ حقوق الأخوَّة والجماعة.

إن أهلَ الإسلام إذا كثر عددُهم واجتمع شملُهم كان أمرُهم أزكى وعملهم أتقى، جاء في الحديث: "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وكلما كثر كان أحبَّ إلى الله". (أخرجه ابن ماجه وابن حبان وغيرهما، وصححه غير واحد من أهل العلم). ومن ذا الذي لا يرغب في تكثير سواد المسلمين، ورؤيتهم جموعاً متراصَّة لا فرادى متقطعين؟! يقال هذا ـ أيها الإخوة ـ والمراقب يلحظ أنَّ في بعض الناس وبخاصة بعض المنتسبين إلى العلم والفضل والصلاح عزوفاً عن الاجتماع والخلطة، وميلاً إلى الانفراد والعزلة، وقد يظهر منهم نحو إخوانهم جفاءٌ ونفرة. كيف تتحقق الأخوة الإيمانية في غير اجتماع؟! {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وكيف تتحقق الشورى إذا اعتزل المسلم الجماعة؟! {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، وحينما يدعو العبد من عباد الرحمن: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان: 74] متى يكون منعزلٌ عن إخوانه -مثلاً- إماماً في الدعوة والهداية، يشهد الناس سيرتَه، يتأسَّون بالحميد من فعاله، ويقتدون بالحسن من لحظه ولفظه؟!.

أيها الإخوة في الله، من أجل المحافظة على الجماعة شُرعت في الإسلام أحكامٌ وآداب، شُرع إلقاءُ السلام وإفشاؤه، وجُعل ردّه واجباً، شرعت المصافحة والتبسم وطلاقة الوجه، أمِر بإظهار المحبة والتودّد، نُدب المؤمنون إلى تبادل الهدايا والإحسان لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وحُرِّم عليهم أسبابُ النزاع وجالبات العداوة والبغضاء ومقتضياتُ التقاطع والتدابر من الخمر والميسر والغشّ في المعاملات والهجر في القول والخصومات الفاجرة.
إنَّ معظمَ خصال الشرف ومحاسن الأخلاق لا تكون إلا لصاحب الخُلطة وحسن العشرة، كيف يكون السخاءُ لمن لم يمدَّ يدَه شفقةً وإحساناً؟! وكيف يقع الإحسان موقعَه إن لم يسبق ذلك معرفةٌ بأحوال الناس؟! وهل يظفر الحلم والأناة إلا حين يقابل به صاحبُه أصحابَ الألسن الحداد والقلوب الغلاظ؟!
في العيش مع الناس يقول أهل الحق للمبطلين في موعظة وحكمة: الصوابُ في غير ما نطقتم، والحقّ في غير ما رأيتم، والخير في غير ما سلكتم. كيف يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوةُ والجهاد والإصلاح من أجل أن تكون أمةُ محمد خيرَ أمة أخرِجت للناس؟! ومن ثمَّ فإنك ترى الأخيار من أهل العلم والفضل يغشون المجامع، ويحضُرون المنتديات، فيقولون طيِّباً، ويعملون صالحاً، وفي الحديث: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم".(أخرجه أحمد وغيره، وحسنه الألباني)، ويقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: (خالطِ الناس، ودينَك لا تَكْلِمنَّه).

أيها الأحبة، قد يتذرّع بعضُ الأخيار بفساد الزمان وكثرة سبل الضلال ونشاط دعاة السوء، أما علموا -وفقهم الله- أن العزلةَ تزيد صَولاتِ الضلال، وتتَّسع بها ظلماتُ المجتمع؟! لماذا لا يكون التوجّه في مقاومة أصحاب الضلالات وذوي الأهواء؟ ومن وضع يدَه مع الجماعة وشدَّ أزر إخوانه فقد قام بنصيبه من الخير، وإذا اعتذر فضلاءُ آخرون بالرغبة في العزلة من أجل قضاء الوقت في العبادة والنظر في حظوظ النفس من الخير فليعلموا -رعاهم الله- أن حضورَ مجالس العلم إفادةً واستفادة هي من العبادة، وعيادة المريض عبادة، والقيام بحقوق الإخوان عبادة، وإرشاد الناس عبادة، ومدَّ يد العون والمساعدة لتقوى الشوكة ويتحقَّق المزيدُ من الألفة والقوَّة كلُّ ذلك عبادة، ولئن كان في العزلة تخلُّصٌ من الوقوع في الأعراض والسعي في النميمة والغيبة والتنابز بالألقاب وفساد الطبع بالأخلاق الرديئة، فإنَّ في مخالطة الصالحين ما يزجر عن هذه المعائب، ويبصِّر بتلك المثالب، وإن لم تُجدِ النصيحة في موقع فإنها مُجدية في موقع آخر، وإن لم ينفع التوجيه في وقتٍ فإنه نافع في وقت آخر، والمهمة في البلاغ، والهداية بيد الله {وَلَكِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4]. وإن ما يُنقل من الرغبة في العزلة عن بعضِ من سلف فإنما هي أحوال خاصّةٌ تعرض لمن تعرِض له، فتجعل الاعتزالَ عنده أرجحَ، ولا يُمكن أن تكون العزلة مذهباً يسَع الناسَ كلَّهم.

وحينما يكون الحثُّ على الجماعة والاجتمَاع فليس المقصود من ذلك صرفَ جميع الأوقات في التردّد على البيوت وغشيان جميع المجالس، فالحقّ أنّ كلَّ إنسان محتاجٌ لأوقات يخلو فيها بنفسه؛ ليقوم بواجبٍ خاص، أو يتقرَّب بنافلة، أو يقضيَ مصلحة، وفي مثل هذا يقول عمر - رضي الله عنه -: (خذوا حظّكم من العزلة). فالمسلك العدلُ والمنهج الوسط في تقسيم المسلم وقتَه بين خلطةٍ حسنة وخلوةٍ نافعة؛ ليخرج من الحالين بما يصلح به الشأن كلّه.
وفي الخلطة يتخيّر المؤمنُ إخواناً يصطفيهم لنفسه، يعيش في أكنافهم من أهل الصدق والصلاح والوفاء، فإنهم زينة في الرخاء، وعُدّة في البلاء، وقد قيل في الحكمة: مِن أعجز الناس من قصَّر عن طلب الإخوان، وأعجزُ منه من ظفر بذلك منهم فأضاع مودّتهم، وإنما يُحسنُ الاختيار لغيره من أحسن الاختيار لنفسه. ويقول علي - رضي الله عنه -: (شَرْطُ الصحبة إقالة العثرة، ومسامحة العِشرة، والمواساة في العسرة).
وعلى الإخوة في علاقاتهم الابتعاد عن التكلّف، وتجنّب التصنّع الثقيل، فإشاعةُ اليُسر في المسالك والبعدُ عن المواقف الحرجة والمداهنات البغيضة مما يوثِّق العرى، ويجلب المودّة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَوةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 17-19].

أيها الإخوة، إنَّ من أدب الإسلام في التعارف وحسن العشرة أن يكون التواصل في وضوح وبيِّنة، حيث لا مانع أن يذكرَ الأخ لأخيه ما يكنُّه له من محبّة وتقدير، وفي الحديث: "إذا أحبّ أحدكم أخاه فليخبره أنه يحبُّه".(أخرجه أحمد والترمذي وإسناده حسن)، وعن أنس - رضي الله عنه - قال: كان رجل عند النبي، فمرّ رجل فقال: يا رسول الله، إني أحبّ هذا، قال: "أعلَمْتَه؟" قال: لا، قال: "فأعلِمْه"، فلحقه فقال: إني أحبك في الله، فقال: أحبَّك الذي أحببتَني له. (أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم وصححه وأقره الذهبي).

ومن سنن الصداقة التزاورُ الخالي من الأغراض، ففي الخبر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي: "إن رجلاً زار أخاً له في قرية، فأرسل الله على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربُّها؟! قال: لا، غيرَ أني أحبّه في الله تعالى، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبَّك كما أحببتَه فيه" (أخرجه مسلم)، وفي خبر آخر: "من عاد مريضاً أو زار أخا له في الله نادى منادٍ: طِبتَ وطاب ممشاك، وتبوّأتَ من الجنة منزلاً" (أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن).

فاتقوا الله رحمكم الله، وأصلحوا ذاتَ بينكم، واحفظوا حقوقَ إخوانكم، واحرصوا على الجماعة والألفَة، ولا تتجشَّموا التكلّف، وأخلصوا في الودّ، واحفظوا العهد، فلقد قال الفضيل - رحمه الله -: (إنما تقاطَع الناس بالتكلّف، يزور أحدهم أخاه فيتكلّف له، فيقطعه ذلك عنه)، واحفظوا كلمةَ الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين قال: (لا تظنَّ بكلمة خرجت من مسلم شراً وأنت تجدُ لها في الخير محملا).
هذا وصلوا وسلموا على خير البرية نبيكم محمد رسول الله فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين المهديين وعن الصحابة أجمعين وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*بتصرف يسير

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة