الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كيف أنسى إساءة الوالدين لي وأتعايش معهم من جديد؟

السؤال

السلام عليكم.

أنا في مقتبل الشباب، ولكن أثناء طفولتي الفترة الماضية حدثت مشاكل كثيرة في حياتي، وأثرت علي وعلى علاقتي بأهلي، مع مرور الوقت تلاشت المشاكل، ولكن بقي أثر المشاكل داخلي والخذلان، والطريقة التي تعامل بها أهلي معي أثناء تلك الفترة وإحساسي دائما بالوحدة.

في هذه الفترة يحاول والدي ووالدتي كسر الحاجز بيننا وتعويضي عن ما سبق، ولكن الذكريات لا تنتهي، وأعود أتذكر كل ما حدث، دائما أحاول الابتعاد عن الأفكار السيئة، ولأنهم أهلي وعلي برهم والرفق بهم وحبهم، مع أن ذاكرتي ليست بالقوية، ولكن دائما أتذكر الأشياء السيئة فقط.

تعبت وأريد حلا يقربني من الله ومن أهلي، ويزيل هذا الإحساس من داخلي، وهذا يمكن أن يكون من الذنوب وكثرة سماع الأغاني التي تؤذي القلب، حاولت كثيرا الابتعاد ولكن أعود من جديد، أرجو الإفادة.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ بلا اسم حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أتفهم مشاعرك -يا ابنتي- ولا شك بأن الإساءة عندما تأتي من الأهل والأقارب يكون وقع الألم فيها على النفس أشد وأعمق، ولكن أريد أن أنبهك إلى أنه ومهما كانت شدة الألم وعمق الجروح التي في داخلك، فإن هذا لا يبرر لك مقاطعة أهلك وعدم التواصل معهم؛ لأن بر الوالدين واجب لا تلغيه الخلافات، وهو حق لهم بأمر من الله -عز وجل-، وما أكثر الآيات التي أوصانا الله -عز وجل- بالوالدين، فلقد نهانا حتى عن قول أي كلمة مهما كانت بسيطة تزعج خاطرهما، (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسنا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما)، وأمرنا أن نكون نحن من يتذلل لهم كطريقة لإظهار الاحترام والعطف (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا).

وعلى الرغم من أن تعامل بعض الأهل بقسوة مع أبنائهم يعتبر طريقة خاطئة في التربية، إلا أن هذا لا يعني عدم حب الأهل لأبنائهم، وبالطبع نحن لا ندرك ذلك في الصغر، لكن عندما نكبر ندرك حجم حبهم لنا وتضحياتهم من أجلنا، ونستوعب بأنهم افتقدوا إلى طريقة التعبير الصحيحة عن هذا الحب الكبير، ولعل ذلك ليس ذنبهم، فهم أيضا ضحية لطريقة تعامل غير صحيحة من قبل أهلهم.

نعم -يا ابنتي- من الطبيعي أن يشعر الإنسان بأنه مجروح ومتألم، ومن الطبيعي أن يلجأ إلى تفريغ مشاعر الألم والغضب بين الحين والآخر، لكن أن ينظر دائما إلى نفسه على أنه ضحية، فهذا أمر غير طبيعي ويندرج تحت اسم (تناذر الاضطهاد)، وهذا يعني بأن الشخص يمتلك ما نسميه بـ (الشخصية الضحية)، فهو يشعر دائما بأنه مظلوم وأن الناس يكرهونه والظروف تعاكسه ويلقي باللوم عليهم في كل شعور سلبي يراوده، ويضخم أخطاء الناس ويستحضرها باستمرار ليؤكد لنفسه بأنه فعلا مظلوم، وهكذا تتشكل في داخله مشاعر مختلطة من الحزن والألم والغضب فتزيد من شعوره بالظلم ويصبح أسير حلقة مفرغة، وبالتالي لا يتمكن من تجاوز الأحداث السلبية في حياته مهما كانت بسيطة، ولا يتمكن من مسامحة الأشخاص مهما كان قريبا منهم ويحبهم.

ولمساعدتك أقول لك: يجب عليك أولا كسر هذه الحلقة المفرغة من المشاعر السلبية، والخطوة الأولى هي بمسامحة نفسك على أخطائك الماضية، بما في ذلك ما صدر منك نحو أهلك من مقاطعة وعدم بر، وأيضا مسامحة نفسك على ما ينتابك من مشاعر كره وحقد لهم ولغيرهم؛ لأنها كانت خارجة عن إرادتك، وعندما تتعلمين أسلوب المسامحة وتبدئين بممارسته باستمرار، فهذا سيساعدك كثيرا وستكونين أنت اول المستفيدين.

الخطوة الثانية هي: يجب عليك النظر بطريقة موضوعية ومنطقية إلى الأحداث التي سببت المشاكل بينك وبين أهلك، وتعرفي على مشاعرك وردة فعلك في ذلك الحين، ثم حددي المواقف التي أسيء فهمها من قبل أهلك، أو التي كنت أنت مسؤولة عنها، وتقبلي ذلك، فكل إنسان معرض للخطأ وهذا طبيعي، لكن غير الطبيعي هو أن لا يعترف الشخص بخطئه ولا يقبل تحمل مسؤولية هذا الخطأ، هنا يكون هذا الإنسان يهرب من مواجهة نفسه بصدق، فيقع أسيرا لمشاعر الاضطهاد التي بدورها ستسبب شعوره بالوحدة والعزلة، بسبب تفادي الناس التعامل معه.

لذلك -يا ابنتي- يجب أن تنظري على أنك كنت مشاركة في تلك الأحداث التي سببت القطيعة بينك وبين أهلك، وأن تضعي احتمال أن يكون لك دور فيما حدث، وأن تتقبلي تحمل المسؤولية على ذلك، فمثلا تذكري حدثا ما سبب خلافا عميقا بينكم، ثم اسألي نفسك بصدق: لو كنت أنا في هذا الموقف مكان أمي وأبي، فكيف كنت أحب أن تتعامل ابنتي معي؟ أو: كيف كان من الواجب علي أن أتصرف معهما لتفادي الخلاف والإبقاء على صلة الرحم؟ لذلك لن أبرئ نفسي كليا من الخطأ بل سأراجع تصرفاتي معهم، ثم قولي لنفسك بصوت تسمعينه: (أعرف بأن أهلي لم يحسنوا التصرف معي في بعض المواقف، وهذا قد سبب لي الكثير من الألم والحزن لكن أهلي يحبونني وأنا متأكدة من ذلك، وسأحاول السيطرة على اللحظات التي تتسلط علي فيها بعض الأفكار الوسواسية التي تشعرني بالاضطهاد من قبلهم، وهي لا شك أفكار من عمل الشيطان الذي يتسلط علي في لحظات ضعف وإحباط حتى تبقى العلاقات بيني وبين أهلي متوترة ومقطوعة).

اسألي نفسك: ما هي الطريقة التي أريد من أهلي أن يعاملوني بها حتى أتخلص من مشاعري السلبية نحوهم؟ فأنا أريد زيارتهم والتواصل معهم، ومعرفة هذا الشيء ستساعدني كثيرا في ذلك، ثم شدي العزم على مقاومة أفكار الشيطان وبادري إلى زيارة أهلك، واعتذري عن كل ما بدر منك في الماضي، وابدئي صفحة جديدة معهم، واطلبي منهم أن يعاملوك بالطريقة التي تحبينها، وسيكون المردود عليك كبيرا، وستكونين أنت الرابحة بكل المقاييس، فرؤية الأهل هي حلم الكثيرين في الغربة، وهي نعمة لا يقدرها إلا من فقد والديه، فمتعي ناظريك بملامح والديك وقبلي وجناتهم وأيديهم الطاهرة، واشكري الله -عز وجل- على هذه النعمة التي لا تقدر بثمن.

أتمنى لك كل التوفيق إن شاء الله تعالى.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً