الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أعجز عن تقبل أبي بسبب قسوته علينا، فهل هذا من العقوق؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لدي مشكلة سببت لي أرقًا، وكثرة تفكير وحيرة!
في البداية أنا لا أنسى فضل والدي علي، وإن كان يسيرًا.

إن أمي هي من تعمل في المنزل، من أجل أن تنفق علينا، وعملها شاق عليها، وأمي مريضة دسك في ظهرها وركبتيها، وقد بلغت ال 52 عامًا، وما زالت تعمل من أجل تعليمنا والإنفاق على المنزل.

والدي يسب أمي كثيرًا، ويتعمد إهانتها أمام صديقاتها وأمامنا، وفي كل مرة نجتمع للطعام وعلى أيسر الأمور يقوم بقلب السفرة على الأرض، وهو لا يعمل منذ وقت طويل، هو معتاد على النوم والراحة، ولا يفكر بنا، ودائمًا يسمعنا كلاماً بأننا لسنَا أبناءه!

هذا الأمر يؤثر بنا جدًا، دائمًا يشتمنا ويصرخ علينا وعلى أمي، وفي مرة أقدم على ضربي لأني قمت بالدفاع عن أمي أمامه، أنا لم تهن علي أمي وهو يسبها على أمر تافه.

اعتدنا على عدم حنانه، وعلى صراخه علينا، وهو ينفق علينا ولكن بقدر يسير، وفي كل مرة يقوم بإذلالنا، ومن ثم يصرف علينا بالإذلال، ويبخل علينا جدًا مع أن عنده مالًا مخبأً، لم يخبرنا به ولكن رأيناه بالصدفة.

أنا لا أستطيع أن أتقبله، لا أرى منه حنانًا على مدار 21 سنة، ودائمًا في صراع مع والدتي، ووالدتي ليس لها أي ذنب، وهي صابرة عليه.

أنا كنت أبره أكثر من إخوتي، ولكن عندما رفع علي عصاه وكان يريد ضربي أصابني انهيار عصبي، وسمعته يدعو بأن أموت، وادعى علي أفعالاً لم أفعلها.

عجزت أن أتقبله، هل هناك أب يفعل ذلك بابنته؟! ومن يومها لا أتكلم معه، هل هذا عقوق؟ حتى إنه لم يكلف نفسه بزيارتي في المستشفى، ولم يأت ويتفقدني، بل دعا علي بأن أموت!

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ Rama حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أهلاً بك -أختنا الكريمة- في موقعك إسلام ويب، ونسأل الله الكريم أن يبارك فيك وأن يحفظك من كل مكروه، وأن يشفي والدتك، وأن يصلح والدك إنه جواد كريم.

بخصوص ما سألت عنه، فنحب أن نجيبك من خلال ما يلي:

أولاً: من الطبيعي أن تولد القسوة بعض النفور بين الأبناء والآباء، نتفهم ذلك جيداً عند ما يراسلنا أحد الأبناء، لكن دعينا نقدم مقدمة هامة جداً قبل أن نجيبك.

اعلمي أيتها الفاضلة: أن فطرة الله قضت بأن تكون هناك محبة للأولاد في قلب أبيهم، حب أوضح من الشمس الساطعة في الظهيرة، حب فطري جبل عليه، قد لا يرى بعض الأبناء ذلك، لكن يوم أن يكونوا آباء سيعلمون جيداً تلك العاطفة.

لا عجب والأمر كذلك أن يفرض الله بر الأبوين على الأبناء حتى ولو كان الأب كافراً، أو الأم كافرة، بل حتى ولو كانا يحرضانك على الكفر بالله عز وجل، قال تعالى: ( وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً).

لذلك لا غرو أن جعل الله رضاه في إرضاء الوالد، وسخطه كذلك في سخطه، فقال صلى الله عليه وسلم: (سخط الله في سخط الوالدين ورضا الله في رضا الوالدين).

اعلمي أيتها الكريمة أنك مهما فعلت براً بأبيك فلن تفي حقه إلا في حالة واحدة أضحت اليوم مستحيلة، هكذا أخبر نبينا - صلى الله عليه وسلم-: فقال: (لاَ يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا إِلاَّ أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا، فَيَشْتَرِيهُ فَيُعْتِقَهُ).

لعلك تذكرين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك)! لهذا الحديث قصَّةٌ مُؤثِّرة وردَتْ في رواية الطبراني والبيهقي، لهذا الحديث من طريق المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابرٍ - رضِي الله عنه - قال: جاء رجلٌ إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا رسول الله، إنَّ أبي أخَذَ مالي، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - للرجل: (اذهَبْ فأتِني بأبيك)، فنزل جبريل - عليه السلام - على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - يُقرِئك السلام ويقول لك: إذا جاءَك الشيخ فسَلْه عن شيءٍ قالَه في نفسه ما سمعَتْه أذناه، فلمَّا جاء الشيخ قال له النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما بال ابنك يَشكوك، أتريد أخْذ ماله؟ قال: سَلْهُ يا رسول الله، هل أُنفِقه إلا على إحدى عمَّاته أو خالاته أو على نفسي! فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (إيهٍ! دَعْنا من هذا، أخبِرنا عن شيءٍ قُلتَه في نفسك ما سمعَتْه أذناك)، فقال الشيخ: والله يا رسول الله ما يَزال الله يزيدنا بك يقينًا! لقد قلتُ في نفسي شيئًا ما سمعَتْه أذناي، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (قُلْ وأنا أسمع)، قال: قلت:
غَذَوْتُكَ مَوْلُودًا وَمُنْتُكَ يَافِعًا تُعَلُّ بِمَا أَجْنِي عَلَيْكَ وَتَنْهَلُ
إِذَا لَيْلَةٌ ضَافَتْكَ بِالسُّقْمِ لَمْ أَبِتْ لِسُقْمِكَ إِلَّا سَاهِرًا أَتَمَلْمَلُ
كَأَنِّي أَنَا الْمَطْرُوقُ دُونَكَ بِالَّذِي طُرِقْتَ بِهِ دُونِي فَعَيْنَايَ تَهْمُلُ
تَخَافُ الرَّدَى نَفْسِي عَلَيْكَ وَإِنَّهَا لَتَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ وَقْتٌ مُؤَجَّلُ
فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّنَّ وَالْغَايَةَ الَّتِي إِلَيْهَا مَدَى مَا فِيكَ كُنْتُ أُؤَمِّلُ
جَعَلْتَ جَزَائِي غِلْظَةً وَفَظَاظَةً كَأَنَّكَ أَنْتَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ
فَلَيْتَكَ إِذْ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتِي فَعَلْتَ كَمَا الْجَارُ الْمُجَاوِرُ يَفْعَلُ
قال: فحينئذٍ أخذ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بتلابيب ابنه وقال: (أنت ومالُك لأبيك).

ثانياً: ليست تلك المقدمة تبريرية لأي سلوك تربوي خاطئ، بل نحن نقر أن بعض الآباء يقعون في مثل تلك الأخطاء التى لا يقرهم الشرع عليها، لكننا هنا نفرق بين الخطأ والبر، فالبر مطلوب منك تجاه الوالد أصاب أو أخطأ، لأنه والدك وسيبقى والدك، وواجب الدعاء له يبقى ديناً في عنقك، له طاعته في غير معصية الله، وطاعته فرض عليك، ولن تسألي يوم القيامة عن أخطائه التي لم تفعليها، إنما ستحاسبين على ما اقترفته يداك.

ثالثاً: أختنا الفاضلة، إن الغضب الذي اعتراك من والدك له أسباب نجملها فيما يلي:

1- شدته عليك وعلى والدتك، وعدم إظهار محبته ومودته لك.
2-عدم النفقة الكافية عليكم.
3- وجود الشيطان المتربص بك، والذي يريد أن يجعل بينك وبين الوالد حاجزاً.

أما الأول فالشدة طبع فطر عليه والدكم عند الغضب، ومن جبل والدها على ذلك فعليها أن تبحث في الأسباب التى تغضبه لتتجنبها، خاصة وقد ذكرت أنها أمور يسيرة وتافهة، وعليه فما دامت هكذا فإزالتها أيسر.

عليك أن تفرقي بين ما يحدث بين والديك وما يحدث معك، فأمك زوجته، وهي أدرى الناس به وأعلم الناس بحاله، وأحرص الناس عليه، وحضورك يجب أن يكون لتطييب ما بينهما، لأنهما عيناك يا أختي، نسأل الله أن يحفظهما، وعليه فعلاج النقطة الأولى: الاجتهاد في تجنب الأسباب التي تصل به إلى الغضب، مع محاولة زيادة معدل التدين عنده، زيادة الصحبة الصالحة له، كل هذه عوامل مساعدة.

أما عدم النفقة فهذا أحد أمرين:
- إما أن يكون بخلاً وهذا مرض يحتاج إلى معالجة هادئة وصبر عليه.
- إما زيادة حرص منه وتدبير، ورؤيته أن بعض مطالبكم كماليات، وهذا يقتضي الاقتراب منه أكثر، والاجتهاد في تبيين حاجتكم لهذا الأمر من عدمه، وبالود والمحبة يفعل الوالد لولده كل شيء.

-أما الثالث وهو وجود الشيطان المتربص، والذي يحاول أن يشعل البيت ويجعله حريقاً دائماً لا يهدأ حاله، فهذا يحتاج منكم إلى ما يلى:

1-المحافظة على الفرائض والنوافل .
2- المحافظة على أذكار الصباح والمساء.
3-قراءة سورة البقرة كل ليلة.
4- الرقية الشرعية.

رابعاً: أختنا الكريمة: إن عدم حديثك مع الوالد يعد من العقوق، وعدم تقبلك له هو من تضخيم الشيطان لأخطاء قائمة بالفعل، لكن تضخيمها وإخراجها على غير حجمها الطبيعي من فعل الشيطان ليوقع العداوة والبغضاء بينكم.

نحن نوصيك بعدة أمور:

1- أيقظي عاطفة أبيك، واعلمى أنها موجودة ولن تتغير أبداً، لكنها قد تضعف، فابدئي برسالة له، واذكري فيها حنينك له وحبك، وابدئي أنت في إيقاظ تلك العاطفة، ابدئي بمد جسور الصلة بينك وبينه، وكذلك التخفيف من المشاكل بينه وبين والدتك، كوني أنت الجسر الرابط بالحب بينهما، والبسمة المشعة في البيت، ووحدك أنت من تستطيعين فعل ذلك لمكانتك عند والدك، ولو بدا منه غير ذلك.

2- وثقي علاقتك جيداً بأمك، واجتهدي في إعانتها بكل ما تستطعين فعله.

3- التمسي لوالدك العذر كلما أخطأ، وفرقي بين المحبة والخطأ حتى تهدأ نفسك.

4- احرصي على عدم فعل ما يكره، وتجنبي إغضابه وكوني طوع يده وأول من يبادر إلى تنفيذ طلباته المباحة المتاحة.

5- أكثري من الدعاء لأبيكم بالهداية والصلاح، ففي صلاحه خير لكم وله، وعليك بالثلث الأخير -يا أختنا- من الليل، فإنها ساعة المحبين لله عز وجل.

افعلي هذا وستجدين تغييراً بأمر الله تعالى، المهم أحبي والدك كما ينبغي فليس بعد الوالدين محبة، يا أختنا.

أخيراً: لا تنشغلي بدعاء والدك عليك، فهذه غضبة وليس عن قصد، وكوني على يقين بأن أول من قال: اللهم لا تستجب هو والدك، فأنت زرعه وبعض فؤاده وقلبه، فلا يوقفك هذا عن بره، ولا يدفعك صده عنك عن السير نحو رضاه، استمري واصبري وستجدين الخير أمامك.

نحن نسأل الله أن يشفيكم وأن يصلح حال والدك، وأن يقيكم شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله الموفق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً