غياب دائم لزوجي وأمراض مزمنة ومعاناة تربوية..ما النصيحة؟
2025-12-17 03:42:33 | إسلام ويب
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أنا في حيرة كبيرة، وأتمنى أن أجد في جوابكم ما يسهّل عليّ الأمور، متزوجة منذ 13 سنة، وخلال كل هذه المدة كان زوجي يعمل بعيدًا عنّا، لكن مؤخرًا أصبح هذا الأمر متعبًا جدًا، فرغم أن مدة الغياب ليست طويلة، إلا أن عدم الاستقرار والغياب الدائم، حتى في المناسبات والأعياد ورمضان، أمر مرهق.
لدي ابن عمره 12 سنة، سلوكه صعب، ويصعب عليّ السيطرة التامة عليه، وأصبحت خائفة جدًا من فكرة انحرافه أو اتباعه لأصدقاء السوء، وما زاد إرهاقي أنني عاملة، وأعاني أنا وزوجي من أمراض مزمنة، والحمد لله على كل حال، كما أنني دائمًا خائفة من قيادته السيارة لمسافات بعيدة، خاصة أنه تعرض لحوادث مرور من قبل.
لذلك، وبما أن راتبي جيد جدًا مقارنة براتبه، ويكفينا للعيش الكريم، اقترحت عليه أن يترك وظيفته، ويمارس أي نشاط بالقرب من عائلته، فنحن -والحمد لله- مكتفون، وهو مؤخرًا بدا متعبًا، ولم يرفض الفكرة تمامًا، لكنني خائفة جدًا أن يشعر بأنه عبء، أو أنني حرمتُه من وظيفته، فيحس أنه بلا دخل، مع أن الأمور المادية لا تهمني مقابل وجوده معنا وراحته.
أرجو أن تنصحوني، وتساعدوني في اتخاذ القرار، بارك الله فيكم.
الإجابــة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ سمية حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
مرحبًا بكِ أختنا الكريمة في إسلام ويب، وردًا على استشارتك أقول، مستعينًا بالله تعالى: أسأل الله تعالى أن يشرح صدركِ، وأن يعطيكِ من الخير ما تتمنين، ويدفع عنكِ وعن أسرتكِ كل مكروه، كما أسأل الله تعالى أن ينفعكِ بهذا الرد، والذي سأجعله في نقاط.
أولًا: تفهّم حالتكِ ومشاعركِ: ما تمرّين به أمرٌ مقدَّرٌ عليكِ من قبل أن يخلقكِ الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة...ثم يُرسل الله تعالى إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويُؤمر بأربع كلمات: رزقه، وأجله، وعمله، وشقيٌّ أم سعيد)، وقال عليه الصلاة والسلام: (قدَّر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء) ولما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: (اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)، وقال عليه الصلاة والسلام: (كل شيء بقضاء وقدر، حتى العجز والكيس)، والكيس: الفطنة.
الجزاء يكون على قدر البلاء، فإن عظم البلاء عظم الجزاء، والابتلاء عنوان محبة الله للعبد، يقول عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ).
فعليكِ أن ترضي بقضاء الله وقدره، وحذارِ أن تتسخّطي، وإلا فالجزاء من جنس العمل، هذه الآلام يجعلها الله رفعًا لدرجات العبد وتكفيرًا للسيئات، كما ورد في الحديث: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفّر الله بها من خطاياه).
إنني أتفهّم ما تعيشينه من حيرة وتعب، فأنتِ تتحمّلين أعباءً كبيرة: غياب الزوج المتكرر، مسؤولية تربية ابن في سنٍّ حسّاس، العمل خارج البيت، المعاناة من أمراض مزمنة، والقلق الدائم على سلامة زوجك، اجتماع هذه الأمور كافٍ لأن يُشعر أي إنسان بالإرهاق النفسي والقلق، فلا تلومي نفسكِ على ما تشعرين به، واحتسبي الأجر عند الله تعالى.
ثانيًا: حكم الغياب الطويل وأثره الأسري: الأصل في الحياة الزوجية هو السكن والمودة والرحمة، ووجود الزوج مع أسرته وجودًا مستقرًا، لا مجرد زيارات متقطعة، وغياب الزوج المستمر، وإن كان طلبًا للرزق، إذا ترتب عليه ضرر نفسي أو تربوي على الزوجة أو الأولاد، أو خوف حقيقي من الانحراف أو التفكك الأسري، فإن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والرزق لا يقتصر على وظيفة بعينها، بل هو بيد الله تعالى.
ثالثًا: مرحلة الابن وحاجته للأب: ابنكِ في سنٍّ يطلق عليها البعض "المراهقة المبكرة"، وهي مرحلة حرجة جدًا، يكون فيها شديد التأثر بالأصدقاء، كثير التساؤل والتمرد، وبحاجة ماسّة إلى وجود الأب كقدوة وضابط سلوكي، وجودكِ وحدكِ -مع تقديرنا لجهدكِ- لا يكفي لسد هذا الفراغ، وغياب الأب في هذه المرحلة قد يزيد من صعوبة الضبط، ويضاعف مخاوفكِ، التي هي في أصلها مخاوف واقعية وليست وساوس.
رابعًا: العمل، والرزق، والشعور بالقيمة: خوفكِ من أن يشعر زوجكِ بأنه عبء أو بلا قيمة، هو خوف نبيل يدل على حسن عشرتكِ له، لكن انتبهي إلى أمرين مهمين:
- الرجولة لا تختزل في الراتب، فقيمته ليست في دخله فقط، بل في حضوره كأب، وقيامه بمسؤوليته الأسرية، وحفظ بيته وأهله.
- البديل الذي اقترحته، لا يعني عجز زوجكِ عن العمل، فاقتراحكِ ليس أن يجلس بلا عمل، بل أن يبحث عن عمل، أو عن نشاط قريب من الأسرة، أو مشروع بسيط ولو بدخل أقل، وهذا لا يُعد فشلًا، بل تحوّلًا رشيدًا يراعي مصلحة الأسرة.
خامسًا: الوضع الصحي والخطر الواقعي: معاناة زوجكِ من أمراض مزمنة، وتعرّضه لحوادث سابقة، وسفره لمسافات طويلة، يجعل القلق عليه قلقًا مشروعًا شرعًا وعقلًا، وحفظ النفس مقصد عظيم من مقاصد الشريعة، ولا يُطلب من الإنسان أن يُعرّض نفسه للخطر المستمر مع وجود بدائل ممكنة.
سادسًا: كيف تتخذون القرار بطريقة متزنة؟
أنصحكِ بالآتي:
1- اجري معه حوارًا هادئًا يتسم بالصراحة، المختلطة بمشاعر الحب والحنان، تتحدثين فيه عن حاجتكِ له كزوج، وحاجة ولدكِ له كأب، وتجنّبي في حديثكِ لغة اللوم، أو ذكر ما تبذلينه، وتساعدين به في ميزانية البيت؛ لأن ذلك قد يشعره بالتقصير ويضغط على نفسه، فيكون سببًا في رفضه لعرضكِ.
2- اتخاذ القرار تدريجيًا، وليس دفعة واحدة، فاجعليه يمر بعدة مراحل حتى يصل إلى ما تريدين، فمثلًا: يأخذ ابتداءً إجازة طويلة من شهرين إلى ثلاثة أشهر، وفي هذه الفترة يمكنكما البحث عن عمل قريب من البيت، فإن وُجد فليجرّبه خلال تلك الفترة.
3- قومي بالتعاون مع زوجكِ بتقييم الأثر النفسي والأسري خلال هذه الفترة، مع طمأنته نفسيًا.
4- أكّدي له بوضوح، حتى ولو لم يجد عملًا، أنكِ لا ترينه عبئًا، وأن وجوده أغلى عندكِ من المال، وأنكِ تقدّرين تعبه وسعيه السابق والحالي وما سيأتي في المستقبل.
5- أكثري من الدعاء والتضرع إلى الله تعالى، مع تحرّي أوقات الإجابة، كالدعاء بين الأذان والإقامة، وأثناء السجود، وفي الثلث الأخير من الليل، واسألي الله أن يختار لكما ما فيه صلاح دينكما وأسرتكما، فإن القلوب بيده.
سابعًا: خلاصة النصيحة من خلال ما ذكرتِ:
. وجود الزوج قرب أسرته في هذه المرحلة مصلحة راجحة.
. لا يظهر أنكِ تطلبين منه ترك مسؤولياته، بل إعادة ترتيبها.
. خوفكِ عليه وعلى ابنكِ مبرر وليس ضعفًا.
. إن تيسّر له عمل قريب ولو بدخل أقل، مع كفاية حاجتكم الأساسية، فذلك -في الغالب- أقرب للسكن والاستقرار وحفظ الأسرة، وهو مقصد عظيم لا يُفرّط فيه.
نسأل الله أن يجمع شملكم على خير، وأن يحفظ زوجكِ، ويصلح ولدكِ، ويرزقكم الاستقرار النفسي والحياة السعيدة، ونسعد بتواصلكِ.