الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أحكام الطلاق من غير حاجة، وسؤال المرأة الطلاق، وخبر هبة سودة يومها لعائشة

السؤال

هناك بعض الشبهات التي تدور في ذهني حول المرأة في الإسلام فيما يتعلق بالطلاق وأشعر أن في هذه المواقف ظلما للمرأة وأريد توضيحاً لما أفكر فيه والإجابة على أسئلتي، لأنني واثقة أن الإسلام لا يمكن أن يظلم المرأة:
1ـ قرأت أن من حق الزوج أن يطلق زوجته بدون سبب؟ وفي المقابل يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما امرأة سألت زوجها طلاقاً من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة ـ حتى إذا قلنا بالخلاف في بعض الفتاوى بين العلماء في طلاق الرجل لزوجته دون سبب بين من يقول لا يجوز ومن يقول إنه مكروه، فهذا لا يرقى أبدا في العقوبة مع كلمة حرام عليها رائحة الجنة في حق من طلبت الطلاق من غير بأس، فلماذا التفريق في المعاملة رغم أنه نفس الفعل؟.
2ـ إذا كان هذا من حقوقه فإنه عندما يتزوج وتعيش زوجته معه سنوات عمرها ويأخذ من صحتها وشبابها، ثم يخطر بباله أن يطلقها، ثم يطلقها ولا يكون ظالما لها، لأن ذلك من حقوقه؟ وليس من حقها حتى الدعاء عليه، لأنه فعل أمرا مشروعا؟.
3. يجوز للرجل أن يتزوج امرأة يأخد من شبابها وتخدمه وتفني حياتها معه، وعندما تكبر يحب أن يجدد شبابه كما يقولون ويطلقها ـ والطلاق هنا مكروه مثلا ـ لأنه سيلحق الضرر بها، فماذا بعد ذلك؟ وما هي حقوق المرأة التي ظلت معه خمسة عشر أو عشرين عاماً؟ ومؤخر صداقها يكون بسيطاً جدا ـ نفقة متعتها ـ وليس لها سكن وتطرد من بيتها بعد عشرة أعوام، أو 20 سنة، بحجة أنها ستلحق بأهلها، فإذا لم يكن لديها أهل يتولاها الأقرب فالأقرب، وتتسول من أقربائها لتعيش وتسكن، أو يتولى أمرها الحاكم أو الولي، وهذا ما يحدث في مجتمعاتنا الإسلامية الآن... إذن يتولاها الله، والله لا ينسى عباده، وعلى قدر الإيمان يأتي الابتلاء، أليس هذا ما يحدث؟.
4ـ قد يقول قائل إذا أراد أن يتزوج الثانية لأنها أعجبته فليمسك الأولى ويتزوج الثانية، لكن لضيق الحال عند كثير من الناس اليوم فإنه لا يستطيع الجمع بين اثنتين فيطلق الأولى لعدم حاجته إليها وحتى يكون متفرغاً للثانية، أليس في كل هذا شيء من هضم للحقوق للمرأة والظلم لها؟.
5ـ سبب أسئلتي كلها هو: أنني عندما سألت لماذا أراد الرسول صلى الله عليه وسلم طلاق زوجته سودة؟ كان الرد لأنها كبرت وكانت سمينة، ولأن الرجل من حقه أن يطلق من غير سبب، فكيف يكون ذلك؟ أرجو الرد علي والتماس الأعذار لي، فأنا حائرة بين كل تلك الأفكار، وجزاكم الله خيراً.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد ذهب عامة أهل العلم إلى كراهة الطلاق من غير حاجة، وبعضهم ذهب إلى أنه حرام، قال ابن قدامة ـ رحمه الله ـ في المغني عند كلامه عن أقسام الطلاق: .... ومكروه: وهو الطلاق من غير حاجة إليه، وقال القاضي فيه روايتان:

إحداهما: أنه محرم، لأنه ضرر بنفسه وزوجته وإعدام للمصلحة الحاصلة لهما من غير حاجة إليه فكان حراما كإتلاف المال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا ضرر ولا ضرار. انتهى.

وكذلك سؤال المرأة زوجها الطلاق من غير بأس ذهب بعض العلماء إلى أنه مكروه وبعضهم إلى أنه حرام، قال ابن قدامة ـ رحمه الله ـ في المغني: إذا خالعته لغير بغض وخشية من أن لا تقيم حدود الله.... فإنه يكره لها ذلك، فإن فعلت صح الخلع في قول أكثر أهل العلم ـ منهم أبو حنيفة والثوري ومالك والأوزاعي والشافعي ـ ويحتمل كلام أحمد تحريمه. انتهى.

فكما ترين أن الطلاق من غير حاجة، وسؤال الطلاق من غير بأس كلاهما قد اختلف فيه أهل العلم بين الكراهة والحرمة، بل قد ندب سبحانه وتعالى الرجال إلى إمساك زوجاتهن مع الكراهية لهن، فقال جل وعلا: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا {النساء:19}.

قال ابن العربي في الآية: المعنى إن وجد الرجل في زوجته كراهية، وعنها رغبةً، ومنها نفرةً من غير فاحشة ولا نشوز فليصبر على أذاها، وقلة إنصافها، فربما كان ذلك خيراً له. انتهى.

وأما قصة سودة بنت زمعة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ فقد خشيت لما كبرت أن يفارقها النبي صلى الله عليه وسلم فوهبت يومها لعائشة ـ رضي الله عنها ـ لا أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لها رغبته في طلاقها أو أنه طلقها فعلا، فإنه غير صحيح لضعف حديث القاسم بن أبي بزة الذي أخرجه ابن سَعْدٍ: أن النبي صلى الله عليه وسلم طَلَّقَهَا... قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: رواية ابن سَعْدٍ هَذِهِ مُرْسَلَةٌ، فَهِيَ لَا تُقَاوِمُ حَدِيثَ ابن عَبَّاسٍ وَمَا وَافَقَهُ فِي أَنَّ سَوْدَةَ خَشِيَتِ الطَّلَاقَ فَوَهَبَتْ. انتهى.

وقال الشوكاني في نيل الأوطار عند شرحه حديث عَائِشَةَ: أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قال رحمه الله: قَوْلُهُ: وَهَبَتْ يَوْمَهَا ـ فِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ فِي الْهِبَةِ: يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا ـ وَزَادَ فِي آخِرِهِ ـ تَبْتَغِي بِذَلِكَ رِضَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد: وَلَقَدْ قَالَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ حِينَ أَسَنَّتْ وَخَافَتْ أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهَا، فَفِيهَا وَأَشْبَاهِهَا نَزَلَتْ: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا {النساء: 128} الْآيَةَ، وَرَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ سَعْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: فَتَوَارَدَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّهَا خَشِيَتْ الطَّلَاقَ فَوَهَبَتْ. انتهى.

وأخيراً نقول قد يكون الطلاق في بعض الأحيان أشرف وأفضل للمرأة من البقاء مع رجل لا يحبها ولا يكرمها، قال الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ في الشرح الممتع: وقد كان أعداء المسلمين يطعنون على المسلمين في جواز الطلاق، لأنهم ما يودون أن تحزن المرأة، مع أن هذا هو العيب حقيقة، لأننا نعلم علم اليقين أن الرجل إذا أمسكها على هون وهو لا يريدها ولا يحبها يحصل لها من التعاسة شيء لا يطاق، لكن إذا طلقها يرزقها الله: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ {النساء: 130} فكان ما جاء به الإسلام هو الحكمة، والرحمة أيضاً، وإلا فإلزام الإنسان بمعاشرة من لا يحب من أصعب الأمور، حتى قال المتنبي: ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدواً له ما من صداقته بُدُّ ـ فمن نكد الدنيا أنك ترى عدواً لك، لكن لا بد أن تصادقه. انتهى.
وللفائدة يرجى مراجعة الفتويين رقم: 52707، ورقم: 139246.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني