الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الوقف على بدعة، وما يترتب على إبطاله، والوقف على من يهدي ثواب القراءة للواقف

السؤال

أراضٍ زراعية وغرفة، أوقفها مالكها لما سماه بـ (إحياء رمضان) حسب زعمهم، أو قريبًا من هذا الاسم، ولعن من يبيع الوقف، أو يشتريه، وكتب أن هذا الوقف لا يبدل، ولا يغير، وأن ناظره هم ورثته، وإحياء رمضان (كما كانوا يعتقدونه) مجلس يتم فيه توزيع القات، والشيشة من ريع الوقف للناس؛ ليقوموا بترديد أذكار، وتهاليل، بصوت جماعي في ليالي رمضان، وفي الوقت الحاضر قالوا: إن هذا الوقف باطل، فقام الورثة ببيع الأراضي، وتقاسموا الثمن، وأحد المشترين اشترى قطعة؛ لأنه إن اشتراها شخص آخر حصلت عليه المضرة، وهو الآن خائف من أن تصيبه لعنة الواقف.وعندنا إذا حكم القاضي ببطلان الوقف بسبب بدعيته، حكم به على أنه ميراث بعد موت الواقف يقسم بين ورثته. السؤال الأول: ما العمل الصحيح في مثل هذه الحالة، ففي بلادنا العديد من الأوقاف على أشياء بدعية، كعمل ما سبق، في ليلة النصف من شعبان؟السؤال الثاني: ما حكم الوقف على من يقرأ القرآن، ويهدي ثواب قراءته للواقف، أو شيء من هذا القبيل، ويكون هو القائم على الوقف، يستفيد منه، أو يعطى من ريعه؟ السؤال الثالث: هل الذين اشتروا الوقف آثمون؟ وهل يصيبهم ما قاله الواقف من اللعن؟ وجزاكم الله خيرًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فالحكم بإبطال هذا الوقف هو الصواب، كما هو حكم كل وقف على بدعة أو معصية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في جواب مطول عن مسألة من هذا الباب: أصل هذه المسألة - وهو على أهل الأعمال التي يتقرب بها إلى الله تعالى، والوصية لأهلها، والنذر لهم - أن تلك الأعمال لا بد أن تكون من الطاعات التي يحبها الله ورسوله، فإذا كانت منهيًّا عنها، لم يجز الوقف عليها، ولا اشتراطها في الوقف، باتفاق المسلمين، وكذلك في النذر، ونحوه. وهذا متفق عليه بين المسلمين في الوقف، والنذر، ونحو ذلك، ليس فيه نزاع بين العلماء أصلًا، ومن أصول ذلك: ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من نذر أن يطيع الله، فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله، فلا يعصه} ...

- إلى أن قال: ما كان في العقود التي يقصد بها الطاعات، كالنذر، فلا بد أن يكون المنذور طاعة ... وكذلك الوقف أيضًا. وحكم الشروط فيه يعرف بذكر أصلين: أن الواقف إنما وقف الوقوف بعد موته؛ لينتفع بثوابه، وأجره عند الله، لا ينتفع به في الدنيا، فإنه بعد الموت لا ينتفع الميت، إلا بالأجر، والثواب؛ ولهذا فرق بين ما قد يقصد به منفعة الدنيا، وبين ما لا يقصد به إلا الأجر، والثواب:

فالأول: كالبيع، والإجارة، والنكاح، فهذا يجوز للإنسان أن يبذل ماله فيها؛ ليحصل أغراضًا مباحة دنيوية، ومستحبة، ودينية، بخلاف الأغراض المحرمة.

وأما الوقف؛ فليس له أن يبذل ملكه إلا فيما ينفعه في دينه؛ فإنه إذا بذله فيما لا ينفعه في الدين، والوقف لا ينتفع به بعد موته في الدنيا، صار بذل المال لغير فائدة تعود إليه؛ لا في دينه، ولا في دنياه، وهذا لا يجوز... وهذا بين في أصول الشريعة من وجهين:

أحدهما: أن بذل المال لا يجوز، إلا لمنفعة في الدين، أو الدنيا، وهذا أصل متفق عليه بين العلماء، ومن خرج عن ذلك، كان سفيهًا، وحجر عليه، عند جمهور العلماء ... اهـ.

ثم ذكر الأصل الثاني - وهو الوقف على الأعمال الدينية، كالقرآن، والحديث، والفقه، والصلاة، والأذان، والإمامة، والجهاد، ونحو ذلك - قال: لا يمكن أن يكون في ذلك نزاع بين العلماء، في أنه لا يجوز أن يوقف إلا على ما شرعه الله، وأحبه من هذه الأعمال، فأما من ابتدع عملًا، لم يشرعه الله، وجعله دينًا، فهذا ينهى عن عمل هذا العمل، فكيف يشرع له أن يقف عليه الأموال!؟ بل هذا من جنس الوقف على ما يعتقده اليهود والنصارى عبادات، وذلك من الدين المبدل، أو المنسوخ؛ ولهذا جعلنا هذا أحد الأصلين في الوقف ...

وبالجملة؛ لا خلاف بين العلماء أن من وقف على صلاة، أو صيام، أو قراءة، أو جهاد غير شرعي، ونحو ذلك، لم يصح وقفه، بل هو ينهى عن ذلك العمل، وعن البذل فيه ... فمن جعل ما ليس مشروعًا، ولا هو دينًا، ولا طاعة، ولا قربة، جعله دينًا، وطاعة، وقربة: كان ذلك حرامًا باتفاق المسلمين، لكن قد يتنازع العلماء في بعض الأمور: هل هو من باب القرب والعبادات، أم لا؟ ... فبذل المال عليها هو من موارد النزاع أيضًا، وهو الاجتهادية، وأما كل عمل يعلم المسلم أنه بدعة منهي عنها؛ فإن العالم بذلك لا يجوز الوقف باتفاق المسلمين. اهـ.

ولكن يبقى الخلاف في كيفية إبطاله، أو ما يترتب على إبطاله، هل يكون برد المال إلى الورثة، أم بصرف الوقف إلى جهة بر مشروعة؟

هذا محل خلاف، ونظر، قال ابن القيم في بدائع الفوائد: هل يصح أن توقف على المسجد ستور؟

أجاب أبو الخطاب: يصح وقفها على المسجد، ويبيعها، وينفق أثمانها على عمارته، لا ستر حيطانه، بخلاف الكعبة الشريفة، فإنها خصت بذلك، كما خصت بالطواف حولها.

وأجاب ابن عقيل: لا ينعقد هذا الوقف رأسًا؛ لأنه بدعة، وهو على حكم الميراث. اهـ.

وقال عليش المالكي في منح الجليل، عند قول خليل في باب الوقف: "وبطل على معصية". قال: (وبطل) الوقف على من يستعين به (على معصية) ... وإن اتفق على كراهته - يعني الوقف - فلا يصرف في تلك الجهة، ويتوقف في بطلانه، أو صرفه إلى جهة قربه. اهـ.

وإذا حكم القضاء في بلد السائل برد الوقف إلى الورثة، فلا حرج في ذلك، فإنه قول معتبر، ووجهه واضح: وهو إرجاع الأمر إلى أصله قبل الوقف.

وإذا تم ذلك، فلا حرج على من يشتري الوقف من الورثة، ولا خوف عليه من لعن الواقف؛ فإنه لعن في غير محله، وإثمه على قائله. وفي ذلك جواب عن السؤال الثالث.

وأما السؤال الثاني المتعلق بالوقف على من يقرأ القرآن، ويهدي ثواب قراءته للواقف.

فجوابه أن ذلك غير مشروع، ولا ينفع الميت، قال شيخ الإسلام - كما في مجموع الفتاوى-: إعطاء أجرة لمن يقرأ القرآن، ويهديه للميت بدعة، لم ينقل عن أحد من السلف؛ وإنما تكلم العلماء فيمن يقرأ لله ويهدي للميت، وفيمن يعطي أجرة على تعليم القرآن وجوه، فأما الاستئجار على القراءة، وإهدائها، فهذا لم ينقل عن أحد من الأئمة، ولا أذن في ذلك؛ فإن القراءة إذا كانت بأجرة، كانت معاوضة، فلا يكون فيها أجر، ولا يصل إلى الميت شيء، وإنما يصل إليه العمل الصالح، والاستئجار على مجرد التلاوة، لم يقل به أحد من الأئمة، وإنما تكلموا في الاستئجار على التعليم. اهـ.

والأصح في التصرف في مثل هذا النوع من الوقف أن يصرف في جنسه المشروع من الطاعات، جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء: شرط الواقف جزءًا من غلة الوقف لمن يقرأ الفاتحة، أو جزءًا من القرآن ويهدي ثوابه للميت، أو له ولغيره، هو مصرف غير شرعي؛ لأن قراءة القرآن لا يهدى ثوابها للأموات؛ لعدم ورود النص بذلك، هذا في أصح قولي العلماء؛ لذا فإن الشرط المذكور، لا يعتبر من مصارف الوقف الشرعية.

وعليه؛ فيصرف الجزء المخصص من الوقف لذلك لمدارس تحفيظ القرآن الخيرية؛ لأن هذا أقرب إلى مقصد الواقف، ومن جنسه. اهـ.

وسئل شيخ الإسلام: عن رجل أوصى زوجته عند موته أنها لا تهب شيئًا من متاع الدنيا لمن يقرأ القرآن، ويهدي له ... وقد قصدت الزوجة الموصى إليها أنها تعطي شيئًا لمن يستحقه، يستعين به، على سبيل الهدية، ويقرأ جزءًا من القرآن، ويهديه لميتها، فهل يفسح لها في ذلك؟

فأجاب بعد أن قرر أن إعطاء أجرة لمن يقرأ القرآن، ويهديه للميت بدعة، فقال: هذه المرأة إذا أرادت نفع زوجها، فلتتصدق عنه بما تريد الاستئجار به، فإن الصدقة تصل إلى الميت باتفاق الأئمة، وينفعه الله بها.

وإن تصدقت بذلك على قوم من قراء القرآن الفقراء؛ ليستغنوا بذلك عن قراءتهم، حصل من الأجر بقدر ما أعينوا على القراءة، وينفع الله الميت بذلك. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني