الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل هذا الكلام صحيح: (اعتدل في كل شيء إلا في عزّة نفسك، فاطغَ)؟

السؤال

هل هذا الكلام صحيح: (اعتدل في كل شيء إلا في عزّة نفسك، فاطغَ)؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن ظاهر العبارة غير مستقيم شرعًا.

فأما قوله: (اعتدل في كل شيء إلا في ...) فغير صحيح؛ فإن الاعتدال محمود مطلقًا، مأمور به في كل شيء، بلا استثناء؛ فالاعتدال هو الوسط الذي مدحت هذه الأمة به، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا البقرة:143}، فطرفا الغلو والتفريط منهي عنهما في الأمور كلها.

قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: فلعمر الله إنهما لطرفا إفراط وتفريط، وغلو وتقصير، وزيادة ونقصان، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن الأمرين في غير موضع، كقوله: {وَلا تجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29]، وَقوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تبذيرا} [الإسراء:26]، وقوله: {وَالَّذِينَ إذَا أَنْفقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُروا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67]، وقوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبوا ولا تسرفوا إِنّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]، فدِين الله بين الغالي فيه والجافي عنه. وخير الناس النمط الأوسط، الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين، ولم يلحقوا بغلو المعتدين، وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطًا، وهي الخيار العدل؛ لتوسطها بين الطرفين المذمومين، والعدل هو الوسط بين طرفي الجور والتفريط. اهـ.

وأما قولك: (إلا في عزّة نفسك، فاطغَ) فهو مخالف للشرع، فقد جاءت النصوص بالنهي عن الطغيان مطلقًا، وذم المتصفين به، قال تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {هود:112}، قال ابن القيم في مدارج السالكين: فبيّن أن الاستقامة ضد الطغيان، وهو مجاوزة الحدود في كل شيء. اهـ.

وقال تعالى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى {طه:24}، وقال: فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى {النازعات:37-39}، وقال: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا {الشمس:11}، وقال: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى {العلق:6}، إلى غير ذلك من الآيات في ذم الطغيان وأهله.

وأما عزّة النفس وشرفها؛ فهي من الأمور المحمودة شرعًا، لكن مجاوزة الحد فيها كبر، وتيه، وعلو مذموم، قال ابن القيم في مدارج السالكين: وكل خلق محمود، مكتنف بخلقين ذميمين، وهو وسط بينهما، وطرفاه خلقان ذميمان ... فإن النفس متى انحرفت عن التوسط، انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين، ولا بد ... فإذا انحرفت عن خلق العزة التي وهبها الله للمؤمنين، انحرفت: إما إلى كبر، وإما إلى ذل. والعزة المحمودة بينهما. اهـ.

وقال ابن القيم في كتابه: الروح: وأما شرف النفس، فهو صيانتها عن الدنايا، والرذائل، والمطامع التي تقطع أعناق الرجال؛ فيربأ بنفسه عن أن يلقيها في ذلك، بخلاف التيه؛ فإنه خلق متولد بين أمرين: إعجابه بنفسه، وازدرائه بغيره؛ فيتولد من بين هذين التيه، والأول يتولد من بين خلقين كريمين إعزاز النفس وإكرامها، وتعظيم مالكها، وسيدها أن يكون عبده دنيًّا وضيعًا خسيسًا؛ فيتولد من بين هذين الخلقين شرف النفس، وصيانته. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني