شرح حديث: لا عدوى ولا طيرة

3-9-2018 | إسلام ويب

السؤال:
جزاكم الله خيرا وأحسن إليكم.
سمعت د عدنان إبراهيم في حديثه عن الطب النبوي، وحينما تعرض لحديث: لا عدوى ولا طيرة. ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى العدوى من منطلق البشرية والتجربة والاجتهاد، وأن هذا ما نقله ابن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة من بين الأقوال التي عددها، ثم رجح هذا القول ومال إليه، ولكني في حدود ما اطلعت عليه لم أجد هذا في الكتاب المذكور.
فما صحة هذا النقل عن ابن القيم؟ وهل صحيح أن طب النبي صلى الله عليه وسلم من مقتضى التجربة والبشرية؟

الإجابــة:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد تعرض الإمام ابن القيم -رحمه الله- لفقه هذا الحديث ومعناه، في عدة كتب من كتبه، ومنها كتاب (مفتاح دار السعادة 2 / 264 : 269) ونقل طائفة من كلام أهل العلم في ذلك، كابن قتيبة وابن عبد البر وأبي عبيد.

ثم قال: وقد سلك بعضهم مسلكا آخر فقال: ما يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم نوعان:
أحدهما: يخبر به عن الوحي، فهذا خبر مطابق لمخبره من جميع الوجوه ذهنا وخارجا، وهو الخبر المعصوم.

والثاني: ما يخبر به عن ظنه من أمور الدنيا التي هم أعلم بها منه، فهذا ليس في رتبة النوع الأول، ولا تثبت له أحكامه. وقد أخبر عن نفسه الكريمة بذلك تفريقا بين النوعين، فإنه لما سمع أصواتهم في النخل يؤبرونها وهو التلقيح قال: ما هذا؟ فأخبروه بأنهم يلقحونها، فقال: ما أرى لو تركتموه يضر شيئا، فتركوه فجاء شيصا، فقال: إنما أخبرتكم عن ظني، وأنتم أعلم بأمر دنياكم، ولكن ما أخبرتكم عن الله. والحديث صحيح مشهور، وهو من الأدلة النبوية وأعلامها، فإن من خفي عليه مثل هذا من أمر الدنيا وما أجرى الله به عادته فيها، ثم جاء من العلوم التي لا يمكن البشر أن يطلع عليها البتة إلا بوحي من الله ... كما أنهم أعرف بالحساب والهندسة والصناعات والفلاحة، وعمارة الأرض والكتابة، فلو كان ما جاء به مما ينال بالتعلم والتفكر والتطير، والطرق التي يسلكها الناس لكانوا أولى به منه ... فهذا من أقوى براهين نبوته وآيات صدقه، وإن هذا الذي جاء به لا صنع للبشر فيه البتة ...

قالوا: فهكذا إخباره عن عدم العدوى إخبار عن ظنه، كإخباره عن عدم تأثير التلقيح، لا سيما وأحد البابين قريب من الآخر ... ولا ريب أن كليهما من أمور الدنيا لا مما يتعلق به حكم من الشرع، فليس الإخبار به كالإخبار عن الله سبحانه وصفاته وأسمائه وأحكامه. قالوا: فلما تبين له من أمر الدنيا الذي أجرى الله سبحانه عادته به ارتباط هذه الأسباب بعضها ببعض، التلقيح في صلاح الثمار، وتأثير إيراد الممرض على المصح، أقرهم على تأبير النخل، ونهاهم أن يورد ممرض على مصح. اهـ.
ثم قال ابن القيم: وهذا المسلك حسن! لولا أنه قد اجتمع الفصلان في حديث واحد، كما في موطأ مالك أنه بلغه عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن ابن عطية، أن رسول قال: "لا عدوى ولا صفر، ولا يحلل الممرض على المصح، وليحلل المصح حيث شاء. قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ فقال رسول الله: إنه أذى". وقد يجاب عن هذا بجوابين: أحدهما: أن الحديث لا يثبت لوجهين؛ أحدهما: إرساله. والثاني: أن ابن عطية هذا -ويقال أبو عطية- مجهول لا يعرف إلا في هذا الحديث.
الجواب الثاني: قوله فيه "لا عدوى" نهي لا نفي، أي لا يعدي الممرض المصح بحلوله عليه، ويدل على ذلك ما رواه أبو عمر النمري -بإسناده عن- مالك أنه بلغه عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن أبي عطية أو ابن عطية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "لا طيرة ولا هامة، ولا يعدي سقم صحيحا، وليحل المصح حيث شاء" ففي هذا النهي كالإثبات للعدوى والنهي عن أسبابها، ولعل بعض الرواة رواه بالمعنى فقال: لا عدوى ولا طيرة ولا هامة، وإنما مخرج الحديث النهي عن العدوى لا نفيها. وهذا أيضا حسن لولا حديث ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "فمن أعدى الأول" فهذا الحديث قد فهم منه السامع النفي وأقره عليه، ولهذا أستشكل نفيه وأورد ما أورده، فأجابه صلى الله عليه وسلم بما يتضمن إبطال الدعوى، وهو قوله: "فمن أعدى الأول" وهذا أصح من حديث أبي عطيه المتقدم، وحينئذ فيرجع إلى مسلك التلقيح المذكور آنفا، أو ما قبله من المسالك. اهـ.
فأنت ترى أن القول المذكور في السؤال لم يقله ابن القيم من قبل نفسه، وإنما نسبه لبعضهم دون تسميته حيث قال: "وقد سلك بعضهم مسلكا آخر ..".
وأما اختيار ابن القيم فقد ذكره بعد ذلك فقال: وعندي في الحديثين مسلك آخر يتضمن إثبات الأسباب والحكم، ونفي ما كانوا عليه من الشرك واعتقاد الباطل، ووقوع النفي والإثبات على وجهه، فإن العوام كانوا يثبتون العدوى على مذهبهم من الشرك الباطل، كما يقوله المنجمون من تأثير الكواكب في هذا العالم وسعودها ونحوسها، كما تقدم الكلام عليهم، ولو قالوا: إنها أسباب أو أجزاء أسباب إذا شاء الله صرف مقتضياتها بمشيئته وإرادته وحكمته، وأنها مسخرة بأمره لما خلقت له، وأنها في ذلك بمنزلة سائر الأسباب التي ربط بها مسبباتها وجعل لها أسبابا أخر تعارضها وتمانعها، وتمنع اقتضاءها لما جعلت أسبابا له، وإنها لا تقضي مسبباتها إلا بإذنه ومشيئته وإرادته، ليس لها من ذاتها ضر ولا نفع ولا تأثير البتة، إن هي إلا خلق مسخر مصرف مربوب، لا تتحرك إلا بإذن خالقها ومشيئته، وغايتها أنها جزء سبب ليست سببا تاما فسببيتها من جنس سببية وطء الوالد في حصول الولد، فإنه جزء واحد من أجزاء كثيرة من الأسباب التي خلق الله بها الجنين ... وهكذا جملة أسباب العالم من الغذاء والرواء، والعافية والسقم وغير ذلك، وأن الله سبحانه جعل من ذلك سببا ما يشاء، ويبطل السببية عما يشاء، ويخلق من الأسباب المعارضة له ما يحول بينه وبين مقتضاه، فهم لو أثبتوا العدوى على هذا الوجه لما أنكر عليهم، كما أن ذلك ثابت في الداء والدواء، وقد تداوى النبي وأمر بالتداوي، وأخبر أنه ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء إلا الهرم، فأعلمنا أنه خالق أسباب الداء، وأسباب الدواء المعارضة المقاومة لها، وأمرنا بدفع تلك الأسباب المكروهة بهذه الأسباب، وعلى هذا قيام مصالح الدارين، بل الخلق والأمر مبني على هذه القاعدة؛ فإن تعطيل الأسباب وإخراجها عن أن تكون أسبابا، تعطيل للشرع ومصالح الدنيا، والاعتماد عليها والركون إليها، واعتقاد أن المسببات بها وحدها، وأنها أسباب تامة، شرك بالخالق عز وجل، وجهل به، وخروج عن حقيقة التوحيد، وإثبات مسبباتها على الوجه الذي خلقها الله عليه وجعلها له: إثبات للخلق والأمر، للشرع والقدر، للسبب والمشيئة، للتوحيد والحكمة، فالشارع يثبت هذا ولا ينفيه، وينفي ما عليه المشركون من اعتقادهم في ذلك. اهـ.
فهذا هو الوجه الذي ينبغي نسبته لابن القيم، وهو قول جمهور أهل العلم كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 220075. وقد أكده ابن القيم بعد ذلك في الكتاب نفسه، وقرره فقال: فالمقامات ثلاثة:

- أحدها تجريد التوحيد وإثبات الأسباب، وهذا هو الذي جاءت به الشرائع، وهو مطابق للواقع في نفس الأمر.

- والثاني: الشرك في الأسباب بالمعبود، كما هو حال المشركين على اختلاف أصنافهم.

- والثالث: إنكار الأسباب بالكلية؛ محافظة من منكرها على التوحيد.
فالمنحرفون طرفان مذمومان: إما قادح في التوحيد بالأسباب، وإما منكر للأسباب بالتوحيد. والحق غير ذلك، وهو: إثبات التوحيد والأسباب، وربط أحدهما بالآخر ... اهـ.
كما قرر ذلك في كتبه الأخرى، مع نقل وجوه أخرى جمع بها أهل العلم والسنة بين ما ظنه بعض الناس تعارضا بين الأحاديث، وقد فعل ذلك أيضا في باب الطب النبوي من كتاب زاد المعاد.

وأخيرا ننبه على أن المدعو عدنان إبراهيم، ليس ممن يعتمد على كلامه وتأصيله، وقد سبق أن ذكرنا شيئا عن حاله في الفتاوى التالي أرقامها: 206872، 227374، 222112.
 والله أعلم.

www.islamweb.net