الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
تقديم

عمر عبيد حسنة

الحمد لله الذي فضل الإنسان على سائر المخلوقات، بما خصه به من حرية الاختيار وقابلية التعلم والقدرة على التفكير والتعبير والمخاطبة، حتى أسجد له الملائكة،

فقال تعالى: ( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) (الحجر:29) ،

وقال تعالى: ( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هـؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم ) (البقرة:31-33)

وقال تعالى: ( الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان ) (الرحمن:1-4) .

وبسبب تلك الخصائص امتلك الإنسان، بأصل خلقه، أهلية مميزة ومهارة متميزة عن المخلوقات جميعا، جعلته أهلا للقيام بأعباء الاستخلاف الإنساني والقدرة على بناء الحضارة وإقامة العمران وبناء العلاقات الاجتماعية مع بني جنسه، كما ملكته القدرة على استئناس وترويض المخلوقـات الأخرى ومحاولة التـواصل معها، وتوصـيل [ ص: 5 ] ما يريده إليها، بتطبيعها وتدريبها على الاستجابة لأصواب معينة ونظرات وحركات تجعلها محلا لاستقبال وتلقي رسالة الإنسان إليها، عن طريق ما يسمى بقوانين «بافلوف» أو الفعل المنعكس الشرطي، هـذا إضافة إلى ما وهب الله المخلوقات، فيما عدا الإنسان، وغرز فيها من الإشارات والحركات والأصوات التي تمكنها من التآلف والتعارف والتزاوج والتهاجر... إلخ، حتى عالم الصم والبكم يمكنه التعبير والتفاهم، بعد إخضاعه للتأهيل والبرمجة المعينة، وقد لا يقتصر ذلك التواصل والاتصال على عالم الأحياء، وإنما يتجاوزه إلى النباتات التي يتم بينها التواصل والتلاقح والتزاوج والإثمار.

فكيان العالم كله قـائم على التواصـل والاتصـال والتفاهم، وما الحضارة والعمران والعلم والمعرفة وجميع المنجزات إلا ثمرة لهذا الاتصال والتواصل، فخطوط المواصلات ليست على الأرض، وليست فيما أبدعه الإنسان لها من وسائل وأدوات، وليست حكرا على الإنسان وإنما طرق المواصلات وأنواعها أكثر من أن تحصى، والارتكاز الأساس في ذلك والتفوق الحضاري والثقافي يتمحور حول مضمون الاتصال وخصائصه وسماته وأدوات الاتصال الموصلة لهذا المضمون إلى المتلقي، أو خصائص الرسالة وسمات الرسول، التي تجعله أهلا للاضطلاع بالمهمة. [ ص: 6 ]

ولعلنا نقول: إن أول اتصال في تاريخ البشرية تم بين الله سبحانه وتعالى والإنسان، الذي تم بموجبه تعليم الله لآدم ، أبي الخلق، عليه السلام ، الأسماء واللغات والصفات،

قال تعالى: ( وعلم آدم الأسماء كلها ) (البقرة:31) ،

ومن ثم ما كان من اتصال آدم بالملائكة وإنبائهم بما علمه الله من الأسماء واللغات التي تميز بها عليهم؛ ومخاطبة الله آدم وزوجه:

( وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هـذه الشجرة فتكونا من الظالمين ) (البقرة:35) ؛

وما كان من اتصال الشيطان بآدم وإغوائه، وما تحصل من الهبوط من الجنة بسبب ذلك، وتلقي آدم كلمات من الله ليتوب عليه.... وهكذا بدأت الحياة على الأرض أول ما بدأت بالاتصال والتواصل، باللغة أداة التفاهم والتعاون والتعارف، حيث تعتبر اللغة بما تتضمنه من تفكير وتعبير واستبطان وتنوع أصوات، معجزة الخلق إلى حد بعيد.

والصلاة والسـلام على المبعوث رحمة للعالمـين، المبين عن ربه ما أنزل إليه، الذي كان الاتصال والإبلاغ والبلاغ المبين هـو المهمة الأساس للنبوات بشـكل عام والنبوة الخاتمة بشكل خاص،

قال تعالى: ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل [ ص: 7 ] فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) (المائدة:67) ، وقوله: ( وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) (النور:54) ،

وقوله: ( يا أيها المدثر قم فأنذر ) (المدثر:1-2) ،

وقولـه: ( فإنما عليك البلاغ ) (آل عمران:20) ،

ويبقى المطلوب دائما لهذا البلاغ أو لهذه الرسالة الارتقاء بالوسيلة وهي امتلاك الفصاحة، والتمكن من فنون القول - والفصاحة هـي الإبانة والظهور لغة- لذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم الخاتم، الذي اختاره الله لعملية البلاغ المبين، ناقلا للرسالة أو موصلا للرسالة، كان أبلغ الناس وأفصحهم بيانا.. فإذا علمنا أن معجزة الرسالة الخاتمة جاءت بيانية إعلامية فكرية بلاغية تخاطب الإنسان بكل مكوناته وتوجهاته واهتماماته أدركنا معنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، وكان في الذروة من قومه فصاحة وبلاغة وبيانا، فإذا كانت اللغة معجزة الإنسان -كما أسلفنا- فإن القرآن الكريم جاء معجزة المعجزة.. وبعد:

فهذا «كتاب الأمة» الثالث بعد المائة: «مهارات الاتصال» للدكتور راشد علي عيسى ، في سلسلة «كتاب الأمة» التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة قطر، في محاولاته الدائبة للارتقاء بوسائل البلاغ المبين، وتحقيق [ ص: 8 ] مقاصد الشريعة بإلحاق الرحمة بالناس، وبذل الجهد لاكتشاف مواطن الخلل ومعوقات النهوض، والدعوة إلى المراجعة وإعادة النظر في أسباب التخلف والفشل والإخفاق وعدم بلوغ الأهداف، والبحث في أسباب القصور والتراجع الحضاري والثقافي بشكل عام، الذي لحق بالأمة، حتى كادت تلك الأسباب تشكل وباء اجتماعيا يتحول شيئا فشيئا ليصبح موروثا اجتماعيا ونفسيا، ينعكس على سائر أنشطة الحياة، أو بتعبير أدق: أصبح ثقافة أو ذهنية ثقافية تشكلت من خلال مناخه ونمت في أحضانه، وما لم يتم التصويب وإعادة التشكيل والتنهيج لهذه الذهنية فسنبقى نراوح في مكاننا، ونقطع أحذيتنا ونستبدلها ونظن أننا نقطع المسافات صوب أهدافنا.. لذلك فالمشكلة كل المشكلة في ذهنيتنا، في الوسائل التي تبني شبكة علاقاتنا ونسيجنا الثقافي، أو في عالم أفكارنا، الذي ينتج عالم أشيائنا، أي ينتج ويكرس واقعنا الذي نحن عليه. إن القول: بأن الإشكالية تكمن في عالم أفكارنا، أو في ثقافتنا، قد يبدو كلاما مستغربا من وجه لكل من لا يستطيع تجاوز الصورة إلى الحقيقة، فكيف نجرؤ على مثل هـذا القول: إن الإشكالية في عالم أفكارنا وكتاب الله الذي أخرج خير أمة للناس بين ظهرانينا، نحن [ ص: 9 ] نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا، والأصل أنه مصدر تشريعنا ومعارفنا وثقافتنا، وهو الكتاب الموحى به من الله خالق الإنسان بمكوناته، أو هـو خطاب الله المعصوم عن الخطأ والخلل للإنسان، الخطاب الخالد المجرد عن حدود الزمان، الصالح والمصلح لكل زمان ومكان، أخرج خير أمة، حملت الرحمة والحضارة إلى الإنسانية جميعا، وقد تجسد في حياة الناس، وشكل نسيجهم الثقافي، وأقام مجتمعا ديناميا فاعلا متحركا مجتهدا مفكرا متدبرا متبينا؟! لكن الذي يستقرئ الواقع والحال الذي نحن عليه، وما يمكن أن يكون قد تسرب إلينا من علل التدين في الأمم السابقة، لا يستغرب ذلك، وإنما قد يتحقق منه، ذلك أن واقع المسلمين اليوم مع القرآن مؤرق وعلاقتهم به يحكمها الهجر والعقوق والنكود والنكول. وحسبنا هـنا أن نأتي بأثر مبكر، قد يشكل لنا قراءة وبصيرة دقيقة لواقعنا، ويستشرف المستقبل، ويساعدنا على تشكيل الرؤية التي نحاول بلورتها والوصول إليها. فلقد قص الله علينا ما انتهت إليه الأمم السابقة البائدة، بعد أن كانت سائدة، لنأخذ حذرنا،

بقوله: ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) (البقرة:78) ،

أي أصبحوا لا يعلمون الكتاب [ ص: 10 ] إلا تلاوة وترتيلا.. قال ابن تيمية ، رحمه الله، عن ابن عباس وقتادة رضي الله عنهما في قولـه: ( ومنهم أميون ) ، أي غير عارفين بمعاني الكتاب، يعلمونـها حفظا وقراءة بلا فهم ما فيها، وقوله: ( أماني ) أي تلاوة لا يعلمـون فقه الكتاب، إنما يقتصرون على ما يتلى عليهم. ولعل فيما يذكره ابن كثير ، رحمه الله، أيضا عند تفسير الآية الثالثة والستين من سورة المائدة ( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ) في الجدال الذي وقع بين الرسول صلى الله عليه وسلم ، وصاحبه زياد بن لبيد ، مؤشرا واضحا وتقويما دقيقا لحالنا الذي صرنا إليه، أو لعالم أفكارنا، وما لحقه من إصابات وكسور ورضوخ وتشويه وضياع وغياب وعي. فعن الإمام أحمد ، رحمه الله، ( قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فقال: وذاك عند أوان ذهاب العلم.. قال قلنا: يا رسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن، ونقرئه أبناءنا، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد ، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة ، أوليس هـذه اليهود والنصارى يقرءون [ ص: 11 ] التوراة والإنجيل لا ينتفعون مما فيهما بشيء؟ ) (أخرجه أحمد في مسنده، وابن ماجه في سننه وأخرجه الترمذي ) . وفي تقديرنا أنه لم يقتصر أمر إصابة عالم الأفكار على ذلك، من استغلاق الفهم وغياب الفقه وشيوع الأمية العقلية والتقليد والتخلف، وإنما تجاوز إلى ما هـو أخطر بكثير، وهو أن عقلية التخلف ومناخ التخلف انعكس على التعامل مع النص الإلهي بالتحريف، والتشويه، والتعطيل، والتفسير والفهم المتخلف، حتى تحول من حل إلى مشكلة، ومن دافع للنهوض إلى معوق يوظف لتسويغ التقهقر والتراجع.

فالمشكلة اليوم -فيما نرى- في عالم أفكارنا، حتى لو كان القرآن بين ظهرانينا، نقرأه ونقرئه أبناءنا، حتى أصبح علم القرآن وتعليمه، الذي يعتبر من أعلى أنواع الخيرية: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) (أخرجه البخاري ) ، لأن به ينقى عالم الأفكار، ويعاد بناؤه وإحياء فاعليته، أصبح يقتصر على حفظ القرآن وتحفيظه.. نحن هـنا لا نقلل من قيمة وأهمية الحفظ والتحفيظ وما يحققه ويفيضه على النفس والمجتمع من الخير، لكنه يبقى غير العلم والتعلم والتعليم، وإن كان جزءا منه.. ولا أدري متى نتحول إلى حالة التدبر والعلم والفعل فنقول قليلا ونعمل كثيرا، بدل أن نقول كثيرا ونعمل قليلا؟! [ ص: 12 ] لقد تحول القرآن، في عصر التخلف والتقهقر والتراجع الحضاري، من شفاء العقول والصدور وتصويب الرؤية وإصلاح عالم الأفكار إلى الاقتصار على الحركة في ساحات المرضى والمصابين، وتحول من مجالات التدبر والنظر والحض على التبين وبعث الحياة وإقامة العمران وتطوير الإنسان إلى ساحات التلاوة على الأموات، واستمرار الجدل حول مشروعيتها من عدمه، دون أن ندرك أن معظم الأمة هـو في حالة موات في تعاملها مع القرآن. إن غياب الوعي بدور القرآن، وهو رسالة الله للإنسان، في نهوض الأمة وإخراجها وبناء خيريتها وإعادة تشكيلها من خلاله، وبناء ذهنيتها وفق منهجه، وانطلاقها لإبلاغه إلى العالم على بصيرة، يفسر حالة الركود والتراجع وانطفاء الفاعلية التي نعاني منها، ويؤكد أن الإصابة في عالم الأفكار.. فالفكر دائما مرحلة تسبق الفعل، والنية دائما دليل العمل، والعقل دائما قبل حركة القدم، والخطاب الإلهي بنصه الخالد مؤهل دائما لإخراج الأمة، إذا أحسنت التعامل معه في التفكير والتعبير، وارتقت إلى مسـتوى محاكاة خطابه واسـتيعاب ما أحدثه في لغتها وخطابها وتواصلها مع العالم واتصالها به. [ ص: 13 ] وهنا قضية قد يكون من المفيد الإشارة إليها والتوقف عندها قليلا، وهي أن القرآن الكريم هـو خطاب الله تعالى للإنسان، في كل زمان ومكان، وألفاظه العربية كانت ولا تزال وعاء إيصال الوحي وتعاليمه إلى الإنسان وتشكيله فكرا وممارسة، عقيدة وشريعة، وفق عطاء الوحي، وأن هـذا الخطاب قد تجسد في حياة الناس، فقد يكون من المسلمات، عندما يكون الموحي أو المرسل أو المخاطب هـو الله الخالق، وأن المخاطب المتلقي هـو الإنسان المخلوق من الله العالم بخلقه:

( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) (الملك:14) ،

وأن الرسالة هـي تعاليم الله وأحكامه، وأن ناقل الرسالة هـو النبي المؤهل للحمل:

( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) (الأنعام:124) ،

أن يحمل ذلك دلالات مهمة، وسمات ونماذج أساسية، تتطلب من كل داعية وإعلامي مسلم اقتباسها حتى يتحقق بإعلام أو اتصال ناجح ومؤثر. فإذا سلمنا بأن الله سبحانه وتعالى خالق الإنسان، العارف بمكوناته جميعا، عقلا وعاطفة، مشاعر وأحاسيس، رغبات ورهائب، خوفا ورجاء، أملا وأمنيات، أثرة وإيثارا، شحا وكنودا، غريزة وفطرة... إلى آخر هـذه المكونات، فإن النتيجة الطبيعية لهذا الاعتقاد اليقين أن خطاب الله لهذا الإنسان لا بد أن يتوجه بداهة لكل هـذا [ ص: 14 ] الإنسان، ويأخذ باعتباره عجينة خلقه جميعا، ويأتي متوافقا وموافقا ومناسبا لفطرة الإنسان وخلقه، غير متجاهل لحاجة من حاجاته الأساسية، قادرا على شحذ هـمته، ورفع عزيمته، والارتقاء به، وتطوير استطاعاته، وإكسابه المنهج ودليل العمل والتعامل مع الإنسان والكون والحياة. ولما كان خطاب الله للإنسان (القرآن) في الرسالة الخاتمة لرحلة النبوة خالدا مجردا عن حدود الزمان والمكان، فمعنى ذلك أنه مؤهل لمخاطبة كل إنسان بحسب كينونته وصيرورته في كل زمان ومكان، وقادر على توصيل التعاليم والمعارف والأحكام والأفكار والتصورات، وتحقيق القناعة بها، والاتباع لها. ولعل هـذا الخلود هـو ما يفسر لنا انتشار الإسلام وامتداده في جميع أنحاء المعمورة، على الرغم من تفاوت أهلها في السلم الحضاري، ابتداء من الإنسان البسيط في الأماكن المتخلفة التي هـي أقرب لفجر التاريخ، الذي لم يقطع المسافات في معارج الحضارة، وانتهاء بالإنسان الذي يقف على قمة الترقي الحضاري ويمتلك حصيلة التجارب الإنسانية، الأمر الذي يعني أن الخطاب القرآني يمتلك سائر مواصفات ونماذج الاتصال، أو أدوات التوصيل، أو جميع [ ص: 15 ] فنون الاتصال، من القراءة والكتابة والحوار والقصة والمثل، واستحضار الماضي، واستشراف المستقبل، والبرهان، والتوجه إلى العقل ودعوته للتفكير والتدبر، وإثارة المشاعر وتوجيهها صوب الخير، والتوجه إلى العاطفة والتسامي والارتقاء بها، وأخذ كل مكونات الإنسان وجهة الخطاب، بعين الاعتبار، وعرض لوحات ونماذج تكاد تكون مستغرقة لوسائل المخاطبة، والتواصل مع كل الحالات التي يتقلب فيها الإنسان أو يعرض لها.

هذا في مجال البرهان، أما في مجال البيان، بكل فنونه وأساليبه وأشكاله وأجناسه وصيغه، فهو في ذلك منجم خالد دائم العطاء والإمداد للصياغات المعاصرة في كل زمان ومكان.

لذلك فنحن نعتقد أن الاستجابة للرسالة والتعاليم الإلهية المرسلة من الخالق إلى الإنسان المخلوق عملية طبيعية وفطرية، ونكاد نقول: أقرب لأن تكون عضوية، وأن بين رسالة الله الخالق وفطرة الإنسان المخلوق المتلقي تواعدا والتقاء، وأن أية عثرة أو عقبة تحول دون الوصول وإحداث التغيير المأمول فإن ذلك سيكون بسبب عقم أدوات التوصيل وإصابتها، وعدم القدرة على تمثل الخطاب القرآني وأساليبه في الدعوة ومخاطبة الإنسان من قبل دعاة الإسلام اليوم. [ ص: 16 ]

ولعلنا نقول هـنا: بأنه على الرغم من واقع المسلمين المتخلف، وأدوات الكثير من الدعاة المصابة بالعطب والتخلف معا، فإن الخطاب والأسلوب القرآني، أو بتعبير أصح القرآن بأفكاره وتعابيره وأساليبه، قادر على تجاوز حالات الضعف والإصابة، والاستئناف والامتداد، بما يمتلك من رصيد مركوز في الفطرة الإنسانية، حتى عندما يكفر به بعض الناس، لإصابات لحقت فطرهم، ينهض به آخرون،

قال تعالى: ( فإن يكفر بها هـؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ) (الأنعام:89) .

لذلك نقول هـنا: إن هـذا القرآن، بتعاليمه وتعابيره وأساليبه وأدواته وبرهانه وبيانه ونماذجه المتنوعة في التوصيل والاتصال بالإنسان، يشكل رصيدا ضخما للقائمين بأمر الاتصال الإسلامي، إن أحسنوا الاغتراف منه، والتمثل لأساليبه، والتدريب على اكتساب مهاراته الاتصالية ونقل قيمه وتعاليمه. ونقول أيضا: بأن القرآن كان ولا يزال منطلق المجاهدة (عملية الإيصال والتواصل) ، ومحورها، ووسيلتها، ورسالتها المؤثرة، وبذلك ندرك مدلول قوله تعالى في التحذير من الوقوع في الشرك والضغوط التي تمارس علينا من الكافرين:

( فلا تطع الكافرين [ ص: 17 ] وجاهدهم به جهادا كبيرا ) (الفرقان:52) ، كما ندرك خطورة العدول عن محورية القرآن، وما ورد من تحذير القرآن لذلك:

( وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هـذا القرآن مهجورا ) (الفرقان:30) ،

وندرك أن رسالة القرآن كانت سببا في التغيير وإخراج الأمة لبناء حضارة إنسانية،كما كانت محورا لحركات التحرر والنهوض، فالقرآن كان دائما في عصور التخلف قوة مانعة من الذوبان محتفظة بالإمكان وخمائر النهوض، وفي فترات النهوض قوة دافعة للنهوض واسترداد الفاعلية،

يقول تعالى: ( وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون ) (الزخرف:44) .

ويزداد إدراكنا أن الأمة المسلمة تشكلت من خلال القرآن ورسالة القرآن وحسن تلقيها لها، ونقلها إلى الآخرين، أي تشكلت من خلال رسالة ومرسل ورسول، واتصال وتواصل، وتعبير وتفكير، وبيان وبرهان، ولم تتشـكل من خـلال جغرافيا أو طبقة أو لون أو جنس، أوصراع وحروب واحتلال. وندرك أيضا لماذا كانت معجزة الرسالة الخاتمة معجزة فكرية بيانية برهانية، وأنها على الرغم من إعجازها فقد تحققت مدلولاتها وعطاؤها من خلال عزمات البشر، حاولت مقاربة المعجزة ومحاكاة [ ص: 18 ] أسلوبها وعطائها في أدوات التفكير ووسائل الاتصال والتعبير: ( وجاهدهم به جهادا كبيرا ) (الفرقان:52) .

لكن المشكلة تكاد تكمن اليوم في أدوات التوصيل، والعجز عن التعامل السليم والتمثل الصحيح لرسالة القرآن، وإدراك مواصفات خطابه ومواقع تنـزيله في الدعوة والمجتمع، وتطوير المهارات الاتصالية المنطلقة من طريق القرآن وأدائه، ومحاكاة أسلوبه، وتنوع أدواته، ذلك أن معجزة القرآن البيانية كانت محاكاتها سببا في اكتساب مهارات لغوية وتعبيرية للأجيال الأولى، مكنتها من حمل دعوته وإيصال رسالته إلى العالم ولا تزال.

وكأن المطلوب اليوم، أكثر من أي وقت مضى، العودة للقرآن ليس لمجرد التلاوة، على أهميتها وعطائها، ولا لمجرد استنباط الحكم التشريعي واستبيان حدود الله في الحلال والحرام، وإنما للتعرف أيضا على طريقته في محاكاة الإنسان، وأدواته، وأسلوبه في الخطاب، وشرائطه في فحص الخبر وكيفيات التلقي، وبيانه لصفات وسمات الرسول الذي يحمل الرسالة، وطريقة الرسول في البلاغ وأخذ الناس والارتقاء بهم شيئا فشيئا، والتدرج في عملية البناء، وإبصار السنن [ ص: 19 ] والآجال التي تحكم الحياة والأحياء، وأهمية معرفة مكونات المخاطب أو المتلقي الثقافية، والمشكلات التي يعاني منها، والتي قد تشكل في كثير من الأحيان مفاتيح شخصيته وكيفيات الدخول إليه، إضافة إلى الإلمام بالسنن الاجتماعية للسقوط والنهوض، لتوظف في تحقيق العبرة وتكوين معايير النظر والمقارنة، وما يجب أن يتمتع به الرسول من الصبر والأناة، والأمانة، والصدق، واحتمال الأذى في كثير من الأحيان، والتحكم بردود الفعل، وعدم الغضب والاستجابة للاستفزاز، حتى يعرف المتلقي بكل أبعاده، ويدرك مدلول قوله تعالى:

( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) (الأنعام:124) ، بأبعاده جميعا.

فالقرآن الكريم أفرد مساحات تعبيرية كبيرة، وكبيرة جدا، عن أحوال الأمم السابقة، وعقائدها، وعاداتها، وانحرافاتها، وأساليبها في مواجهة الحق، وأسباب سقوطها وانحلالها، أو بتعبير آخر رسم بهذه المساحة التعبيرية من القصص القرآني خارطة فكرية وعقائدية واجتماعية وتاريخية وحتى نفسية، ليكون الداعي أو المتصل أو الرسول على بينة من محل دعوته، محيطا بطبيعة المتلقي، بصيرا بوسائل التعامل معه وكيفيات الوصول إليه. [ ص: 20 ]

ولعل في قصص الأنبياء وتجربتهم الفنية في الدعوة، وتنوع وسائلهم، وتنوع وأنواع الاستجابات لأقوامهم، وما كانوا يتحلون به من الخصائص والصفات التي انتهت إلى الرسالة الخاتمة، والتي يخضع الكثير منها للامتداد والاكتساب، ما يشكل أصول ومنطلقات وآداب العملية الاتصالية، وزادا لا ينضب، وعلى الأخص في مجال الرسول القائم بالاتصال والمتلقي.

وتكاد تكون تجربة الأنبياء التاريخية من لدن آدم ، الذي تلقى كلمات من الله، إلى محمد صلى الله عليه وسلم الذي يقف على خط النهاية من الرسل، عرضت بمجملها لأصول مشكلات الاتصال الإنساني وأدواته وآدابه وكيفياته.. عرضت لحال الرسول وتجربته على مستوى (الذات) و (الآخر) ، وعرضت لطريقته في الدعوة وكيفية تناول المشكلات التي يعاني منها المتلقي، ولمعاناته النفسية، فلكل رسول طريقته الاتصالية التي تلتقي مع مشكلات قومه، ولكل قوم عقائدهم ومشكلاتهم، ولكل رسول اجتهاداته في التعامل، حتى انتهت النبوة بكل تنوعاتها الاتصالية إلى الرسالة الخاتمة، التي تزخر بهذه التجارب الفنية المتنوعة، التي تكاد تستوعب أصول كل ما ستتعرض له البشرية في رحلتها. [ ص: 21 ]

فلقد كان الخطاب واقعيا، تلون بلون المشكلات -إن صح التعبير- ولم يكن عملا إنشائيا أو حديثا في فراغ؛ خطابا لامس النفوس والقلوب والعقول، أي خاطب الإنسان بكل مكوناته، ودخل إليه من جميع نوافذه، ودعاه إلى التفكير والنظر والمقارنة والقياس والاعتبار بمكونات واقعه، ترك له مساحات هـائلة من العملية الاتصالية للنظر والتدبر، حتى يصبح شريكا متفاعلا في البناء وليس مجرد متلق ووعاء. وهنا قضية، في المجال الاتصالي أو الدعوي أو الإعلامي، تكاد تكون على درجة من الأهمية والخطورة معا، وهي أن الخطاب القرآني للإنسان، أو القرآن، لم يقتصر على القيم التعبيرية وأنواعها وأساليبها وأجناسها، ذلك أنها في نهاية المطاف تعتبر أوعية للنقل وألفاظا وقوالب لحركة القيم الشعورية أو العقلية أو المعرفية، وهي إما أن تكون أوعية مؤثرة وفاعلة، إذا تألقت وارتقت، وإما أن تتحول إلى قبور للمعاني، تحنطها وتحاصرها وتقتل فاعليتها وتحد من تأثيرها.. وقد بلغ الخطاب القرآني الخالد في ذلك شأوا بعيدا ما يزال محل عطاء ومحاكاة، كما أسلفنا. لكن القرآن الكريم أيضا لفت النظر إلى أهمية التنبه إلى مضمون الرسالة، أو مضمون الاتصال أو المحتوى والموضوع، إذا اعتبرنا أن [ ص: 22 ] وسائل الاتصال في معظمها اليوم تتمركز حول الشكل والصورة..ذلك أن الشكل والوسائل مهما بلغت في تأثيرها وسحرها وخطفها للأبصار والأسماع والألسنة، وحتى العقول، فلا تلبث أن تفتقد وهجها وقيمتها وتأثيراتها الآنية إذا لم تتحصن بالمعلومة الصحيحة والحقيقية الواضحة والمعرفة الصادقة، فلئن كانت النتائج للوسائل والأدوات مؤثرة وفاعلة فإن العواقب لكل اتصال وإعلام لا يمتلك مضامين حقيقية وصحيحة سوف تكون وخيمة. لذلك أكد الخطاب القرآني على خصـائص وصفات الرسول أو القائم بالاتصال ليكون محل ثقة واحترام، كما أكد على إيقاظ وعي المتلقي للرسالة، وحمله مسئولية فحص مضمونها، واختبارها، والتحري حولها، والتفكير فيها، والتبين الكامل لمضمونها، حتى لا يحمله تأثيرها وسحرها على ممارسات تلحق الضرر بنفسه أو بمجتمعه.. فالكثير ممن يتلقون الأخبار بألسنتهم، دون فحصها واختبارها وتمريرها على العقل، يسرعون بنقلها؛ لأنهم اكتفوا بتلقيها بألسنتهم، سوف يتحملون مسئوليات كبيرة وعظيمة أمام الله وأمام الناس، لما يترتب عليها من الفساد والإفساد،

يقول تعالى: ( إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هـينا وهو عند الله عظيم ) (النور:15) . [ ص: 23 ] ولقد أورد القرآن في ذلك قصصا على مدى تأثير وسائل النقل والاتصال وقدرتها على سحر أعين الناس واستمالتهم واسترهابهم، وكيف تكون العاقبة والنهاية أن يخسر عندها المبطلون، وأن يبطل السحر، وينقلب على الساحر، وتنتصر الحقيقة.

يقول الله سبحانه وتعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ) (الحجرات:6) ،

( سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم ) (الأعراف:116) ،

( وخسر هـنالك المبطلون ) (غافر:78) ،

( ما جئتم به السحر إن الله سيبطله ) (يونس:81) ،

( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ) (النساء:83) .

لذلك ( قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « إن من البيان لسحرا ) (أخرجه البخاري ) ، وقال: ( إن من الشعر لحكمة ) (أخرجه ابن ماجه ) ، منبها على خطورة السقوط في شرك وسائل الاتصال الزائفـة، التي لا تمتلك إلا الصورة وتفتقد الحقيقة.

ولا شك أن اللغة كانت ولا تزال وستبقى هـي الوسلة الأهم في العملية الاتصالية، وأن العين والأذن هـما حاستا الاتصال والتواصل [ ص: 24 ] الأكثر تلقيا، على الرغم من أن اللون والصورة والمكان والإشارة والإضاءة والإيماءة، وحتى حركة الوجه والشفاه، كلها تشكل وسائل اتصال بالغة الأثر. فاللغة هـي وعاء الاتصال الأهم، وطريق المواصلات الأساس، ووسيلة التفاهم والتعبير عن المعرفة والمعلومة، والمخترع، والمفكر، والإنتاج، والثقافة، والحضارة، الأبعد أثرا. لذلك كانت أهلية اللغة، وقابليتها، وقدرتها، وغنى مفرداتها المعبرة عن كل الأحاسيس مهما دقت، وإمكانية تطورها وتطويرها، من الأمور الأكثر أهمية في العملية الاتصالية، وكان مدلول قوله تعالى:

( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) (الأنعام:124) ،

مؤشرا على اختيار العربية لتكون وسيلة التعبير والاتصال للرسالة الخاتمة. فالإسلام، خاتم الرسالات ومستوعبها جميعا، جعل الله تعاليمه وشريعته بالعربية؛ هـذه اللغة المؤهلة، لحمل الحقائق الإلهية والكونية والحياتية الكبيرة، من النشأة إلى المصير، وتقدم من خلال ألفاظها ومفرداتها الغنية وتراكيبها وأساليبها صورا تكاد تكون مجسدة ومشهودة عن عالم الشهادة، وتتجاوز ذلك إلى تقديم مشاهد مشخصة ومجسدة عن عالم الغيب. [ ص: 25 ] هذه اللغة، حملت القرآن إلى العالمين، ووسعت حقائقه، وتوسعت بها، وارتقت ونمت وتطورت بمحاولتها محاكاة أسلوب القرآن، والارتفاع إلى مسـتواه، وبقيامها بأداء رسـالته في البلاغ المبين، على أكمل وجه، حيث لا يتسـع المجال للحديث عن بلاغة العربية، وقد ألفت في ذلك كتب وأسـست علوم، كلـها جاءت ثمرة للارتقاء بوظيفة البلاغ المبين، الذي يعتبر مهمة النبوة الأساس ومهمة ورثة النبوة. إن الارتقاء بوظيفة البلاغ المبين، التي تعتبر المهمة الأساس للنبوة، دفع إلى تأسيس وتأصيل علوم في البلاغة والنحو والتلاوة، وفنون في الأساليب والأدوات الموصلة للمعلومة والمعنى، إضافة إلى إفراد مؤلفات في آليات وفنون الكتابة وآدابها، وكيفية صياغة المعاني، وبالإمكان القول: إن علامات الترقيم ، من النقطة إلى الفاصلة ، إلى الفاصـلة المنقوطـة ، إلى إشارة التعجب وإشـارة الاسـتفهام ، إلى أهمية تكامل الفـكرة والفقرة، والبدء من أول السـطر... إلخ، كلها أمور تعتـبر من إبداعـات علوم اللغة لتسهيل وصول المعنى إلى المتلقي. [ ص: 26 ] وليس أقل من ذلك شأنا علوم الصوتيات وفقه اللغة ، من ارتباط الأصوات بالمعاني، والتدريب على مخارج الحروف، وعلامات الوقف، والتجويد، وأن يتولى التلاوة، والأذان، الصيت الحسن الخلق، حيث المطلوب أيضا من المسلم التغني بالقرآن، وتطهير مخارجه، وترتيله ترتيلا، والتمهل في الحديث حتى يدركه ويستوعبه السامع، إضافة إلى التفنن في الأصوات والإمالات والتعطيشات وأنواع الإدغام والإخفاء والإظهار والقلقة والهمس والمدود والوقف ، وتقسيم الحروف إلى حروف حلقية وحروف لثوية وقلقلة ، وما تتركة تلك الأصوات من إيقاعات موزونة للفت الانتباه وتوصيل المعنى المراد، إضافة إلى تنوع في القراءات المتعددة.

إن العربية لغة البلاغ المبين، بأصواتها، وإيقاعها، وفاصلتها، واستخدامها للسلم الصوتي كاملا، وعلامات الإعراب، وما يترافق مع ذلك من ضبط المخارج، لتمنح الأصوات المطلوبة خصائص ملفتة لتحقيق الإصغاء وشحذ الذهن على التهيء لاستقبال المعنى، هـي أشبه بسمفونية موسيقية ، إذا سمح لنا هـنا التجاوز في التعبير. [ ص: 27 ]

هذا علاوة عن فنون البلاغة، من الحقيقة، والمجاز ، والاستعارات ، وأنواع التشبيهات ، وأنواع الاستفهامات ، ومقاماتها، والضمائر وتنوعها، وفنون البديع في القول من الجناس والطباق والالتفات والمشاكلة ، وغير ذلك، تلك العلوم والفنون التي لو كتب لها الامتداد لأتت بالعجب العجاب والامتداد الخالد للغة الخطاب الخالد والكتاب الخالد، ذلك أنها جميعا انطلقت من الكتاب الكريم، وعادت إليه، فكانت هـذه العطاءات في إتقان التوصيل والتواصل ثمرة للمجاهدات بالقرآن الكريم وإبلاغه للناس،

استجابة لقوله تعالى: ( وجاهدهم به جهادا كبيرا ) (الفرقان:52) .

لكن الحقيقة المحزنة أن التخلف لا يصيب جانبا في الأمة دون آخر، حتى يتكامل التخلف -إن صح التعبير- فيطبق عليها، وعندها تنقلب الوسائل إلى غايات، والأدوات إلى أهداف، فتغيب المقاصد والأهداف والوظائف لهذه الوسائل، وتتحول إلى تجريدات لفظية متجمدة عاجزة حتى عن التجديد أو التعدية لمثال جديد، يتم تلقيها من جيل إلى جيل دون تحقيق أي مهارة، حتى لتكاد اليوم تنفصل عن اللغة، فتصبح اللغة وفنون القول والكتابة في الأجناس الأدبية شيئا، وعلوم اللغة والبلاغة شيئا آخر. [ ص: 28 ]

والخشية كل الخشية أن تنقرض مثل هـذه الذخيرة العظيمة من العلوم بعجزنا عن تطويرها، واستخدامها، والإغراء بها، والتدريب عليها، واكتسابها كمهارات ضرورية في العملية الاتصالية، وتنتهي إلى المعاجم والمؤلفات التي هـي أشبه بالمتاحف، أو إن شئت فقل: المقابر المجاورة للمدن والحياة.. فاللغة تبقى كائنا حيا ينمو بنمو الحياة، والنمو هـو الذي يولد ألفاظا، ويبلور مصطلحات، ويسهم بإغناء اللغة، وتتخلف وتخرج من الساحة بتخلف الأمة وتوقفها.

وقد لا نكون بحاجة إلى الحديث عن وسائل الاتصال وتقنياتها في العصر الحاضر، سواء في ذلك الصوت أو الصورة أو اللون أو الحركة أو اللباس أو المكان المناسب أو الزمان المختار، والشأو الذي بلغه تطويرها من حيث السرعة والتأثير والتنويع والإبداع اليومي، بل اللحظي، حتى أصبحت تملأ علينا جميع حواسنا، وتعيد تشكيلنا، وتصلنا قبل أن يرتد إلينا طرفنا، بل نستطيع القول: إن طرفنا أصبح يرتد بها، بسبب تقدم العلم والمعرفة وكشف مكونات الكون وأسراره وقوانينه وإمكاناته الهائلة:

( قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ) (النمل:40) ، [ ص: 29 ] ذلك أن هـذا الانفجار المعرفي لا بد له من أوعية وطرق مواصلات وأدوات اتصال، تستوعب وتتسع لحركته وسرعته.

والحقيقة التي لا مكابرة فيها ولا مراء، أن النمو والارتقاء والإبداع بوسائل الاتصال وتطويرها إنما يأتي ثمرة للانفجار المعرفي والمعلوماتي والإنتاج الصناعي والإبداع العلمي والنمو الحضاري، الذي يتطلب دائما أوعية تواكب حركته وتواصله –كما أسلفنا- لذلك نقول: بأن الجمود والخمول والاستنقاع الحضاري والتخلف والخروج من ساحة الفعل الحضاري، في العمل والإنتاج، لا يمكن أن يحمل معه أي تطور أو تطوير؛ لأن معيار تطور وسائل الاتصال يقاس بالإنتاج العملي والنمو المجتمعي، ويأتي ثمرة للتقدم والامتداد الحضاري والثقافي والسياسي.. وتبقى مقولة: «إن الحاجة هـي أم الاختراع»، فإذا انطفأت الفاعلية وغابت الحاجة فمن أين تأتي الحركة؟!

ولا بد أن نشير هـنا بأنه دائما وأبدا يبدأ التطوير والفاعلية من (الذات) ، ولا يمكن أن يبدأ من خارجها، والمحرضات والتحديات والاستفزازات الخارجية تبقى عوامل مساعدة على إيقاظ (الذات) ، وبعث فاعليتها لتنطلق، وتكون قادرة على الإفادة والتبادل المعرفي والتواصل الحضاري والثقافي، والارتقاء بأدواته، والأخذ والعطاء، [ ص: 30 ] وتلمس الحكمة، أينما وجدت، واستشعار أهميتها، فإذا غابت (الذات) وارتحل اكتساب المهارات أو التطور والتطوير أو (التمهير) -إن صح التعبير- إلى (الآخر) ، وأصبحت المهارات الاتصالية تتم خارج النسق الحضاري والثقافي للأمة، تتم في إطار (الآخر) بوسائله وأدواته ولغاته وإنتاجه وإبداعه، فلا نعتقد أن مثل هـذه المهارات يمكن أن تساهم بتحريك رواكد الأمة بقدر ما تشكل طاقات تصب في حضارة (الآخر) وتوظف لصالحها، حتى على مستوى (الذات) ، التي لا تزيدها إلا خبالا وتخلفا وضياعا وإنهاكا، وتساهم بتكريس حالة التقليد والاحتماء بالتراث، مع استمرار العجز عن تمثله والامتداد فيه.

وبعد:

فهذا الكتاب، يعتبر إحدى المحاولات التي يمكن أن تساهم بالارتقاء بعملية الاتصال، وتنبه إلى بعض الفجوات لاستدراكها حتى تحقق العملية الاتصالية مقصدها.. كما يمكن اعتباره من الاجتهادات المقدورة لاستدعاء هـذه الإشكالية المهمة إلى ساحة الهم والتفكير؛ كما يشكل لبنة أو ضميمة تضاف إلى ما قدمته سلسلة «كتاب الأمة» في هـذا المجال الحيوي من إسهامات ومحاولات لا تخرج في [ ص: 31 ] نهاية المطاف عن أن تشكل محرضات ثقافية، ونوافذ في جدار التخلف، وإضاءة على باب النفق المظلم، تغري بالتفكير والبحث والمتابعة والعطاء، وتحاول الارتكاز إلى التراث، وردم فجوة التخلف، وإنهاء القطيعة مع مخزون الأمة التراثي، ومحاولة استصحاب عوامل النمو والبقاء، وتحقيق الوعي بأبعاد المجاهدة بالقرآن، والاضطلاع بمهمة البلاغ المبين، بكل متطلباتها ووسائلها، وتجديد الإدراك بأن التدليل على خلود القرآن هـو امتلاك القدرة والمهارات على الإنتاج الفكري والاتصالي والبلاغي المناسب لكل زمان ومكان.

والكتاب في النهاية يشـكل دعوة تأسيس وتأصيل للعزيمة على الرشد، وإعادة بناء (الذات) ، والتنبه لهذا الثغر العظيم، وأخذ الكتاب بقوة،

استجابة لقولـه تعالى: ( خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ) (البقرة:63) .

والحمد لله رب العالمين. [ ص: 32 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية