الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( المسألة الثالثة : آراء المتكلمين والفلاسفة في حجة إبراهيم )

                          ما ذكره الرازي وغيره من مفسري المتكلمين في هذه المحاجة تكلف لا تدل عليه العبارة ، ولا يقتضيه العقل ، ولا تتوقف عليه الحجة ، وقد تقدم أنهم جعلوا مقولهم فيها على ذكر الأفول ، وكون وجه الحجة فيه دلالته على الإمكان والحدوث ، وقالوا : إن أحسن الكلام ما يحصل فيه نصيب لكل من الخواص والأوساط والعوام ، فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان ، وكل ممكن محتاج ، والمحتاج لا يكون مقطع الحاجة ، فلا بد من الانتهاء إلى من يكون منزها عن الإمكان حتى تنقطع الحاجات بسبب وجوده كما قال : ( وأن إلى ربك المنتهى ) ( 53 : 42 ) وأما الأوساط فإنهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة ، فكل متحرك محدث ، وكل محدث فهو محتاج إلى القديم القادر ، فلا يكون الآفل إلها بل الإله هو الذي احتاج إليه ذلك الآفل ، وأما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب ، وهم يشاهدون أن كل كوكب يقرب من الأفول فإنه يزول نوره وينقص ضوؤه ، ويذهب سلطانه ويصير كالمعزول ، ومن يكون كذلك لا يصلح للإلهية ( قال الرازي ) بعد ما تقدم : فهذه الكلمة " لا أحب الآفلين " مشتملة على نصيب المقربين ، وأصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، فكانت أكمل الدلائل وأفضل البراهين . ثم ذكر الرازي بعد هذا دقيقة استنبطها من مذهب علماء الفلك على عهده ، هي أعرق في التكلف من هذا التفصيل الذي جعل فيه الوجه الصحيح في الحجة نصيب العوام الذين سماهم أصحاب الشمال ، وهو يعلم أن أصحاب الشمال هم أهل النار ( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) .

                          ثم قال الرازي : تفلسف الغزالي في بعض كتبه ، وحمل الكوكب على النفس الناطقة الحيوانية التي لكل كوكب ، والقمر على النفس الناطقة التي لكل فلك ، والشمس على العقل المجرد الذي لكل ذلك . وكان أبو علي بن سينا يفسر الأفول بالإمكان ( أي فهو عند الرازي إمام المقربين ! ) فزعم الغزالي أن المراد بأفولها إمكانها في نفسها ، وزعم أن المراد من قوله : ( لا أحب الآفلين ) أن هذه الأشياء بأسرها ممكنة الوجود لذواتها ، وكل ممكن فلا بد له من مؤثر ، ولا بد له من الانتهاء إلى واجب الوجود . واعلم أن هذا الكلام لا بأس به إلا أنه يبعد حمل لفظ الآية عليه . ومن الناس من حمل الكوكب على الحس ، والقمر على الخيال والوهم ، والشمس على العقل ، والمراد أن هذه القوى المدركة الثلاث قاصرة متناهية ، ومدبر العالم مستول عليها قاهر لها ، والله أعلم . انتهى كلام الرازي ، وليس ما استحسنه من قبل - بل سماه أحسن الكلام - إلا مثل ما استبعد حمل الآية عليه من بعد أو هو أبعد وأجدر بالملام .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية