الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
فصل

عشق الصور

ونختم الجواب بفصل متعلق بعشق الصور وما فيه من المفاسد العاجلة والآجلة ، وإن كانت أضعاف ما ذكره ذاكر ، فإنه يفسد القلب بالذات ، وإذا فسد القلب ؛ فسدت الإرادات والأقوال والأعمال ، وفسد ثغر التوحيد كما تقدم ، وكما سنقرره أيضا إن شاء الله تعالى .

والله سبحانه وتعالى إنما حكى هذا المرض عن طائفتين من الناس ، وهم اللوطية والنساء ، فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف ، وما راودته وكادته به ، وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف بصبره وعفته وتقواه ، مع أن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلا من صبره [ ص: 209 ] الله ، فإن مواقعة الفعل بحسب قوة الداعي وزوال المانع ، وكان الداعي هاهنا في غاية القوة ، وذلك من وجوه :

أحدها : ما ركبه الله سبحانه في طبع الرجل من ميله إلى المرأة ، كما يميل العطشان إلى الماء ، والجائع إلى الطعام ، حتى إن كثيرا من الناس يصبر عن الطعام والشراب ولا يصبر عن النساء ، وهذا لا يذم إذا صادف حلالا ، بل يحمد كما في كتاب الزهد للإمام أحمد من حديث يوسف بن عطية الصفار عن ثابت البناني عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : حبب إلي من دنياكم النساء والطيب ، أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن .

الثاني : أن يوسف عليه السلام كان شابا ، وشهوة الشباب وحدته أقوى .

الثالث : أنه كان عزبا ، ليس له زوجة ولا سرية تكسر شدة الشهوة .

الرابع : أنه كان في بلاد غربة ، يتأتى للغريب فيها من قضاء الوطر ما لا يتأتى له في وطنه وبين أهله ومعارفه .

الخامس : أن المرأة كانت ذات منصب وجمال ، بحيث إن كل واحد من هذين الأمرين يدعو إلى مواقعتها .

السادس : أنها غير ممتنعة ولا آبية ، فإن كثيرا من الناس يزيل رغبته في المرأة إباؤها وامتناعها ، لما يجد في نفسه من ذل الخضوع والسؤال لها ، وكثير من الناس يزيده الإباء والامتناع إرادة وحبا ، كما قال الشاعر :


وزادني كلفا في الحب أن منعت أحب شيء إلى الإنسان ما منعا



فطباع الناس مختلفة ، فمنهم من يتضاعف حبه عند بذل المرأة ورغبتها ، ويضمحل عند إبائها وامتناعها ، وأخبرني بعض القضاة أن إرادته وشهوته تضمحل عند امتناع امرأته أو سريته وإبائها ، بحيث لا يعاودها ، ومنهم من يتضاعف حبه وإرادته بالمنع فيشتد شوقه كلما منع ، ويحصل له من اللذة بالظفر بالضد بعد امتناعه ونفاره ، واللذة بإدراك المسألة بعد استصعابها ، وشدة الحرص على إدراكها .

السابع : أنها طلبت وأرادت وبذلت الجهد ، فكفته مؤنة الطلب وذل الرغبة إليها ، بل كانت هي الراغبة الذليلة ، وهو العزيز المرغوب إليه .

الثامن : أنه في دارها ، وتحت سلطانها وقهرها ، بحيث يخشى إن لم يطاوعها من أذاها له ، فاجتمع داعي الرغبة والرهبة .

[ ص: 210 ]

التاسع : أنه لا يخشى أن تنم عليه هي ولا أحد من جهتها ، فإنها هي الطالبة الراغبة ، وقد غلقت الأبواب وغيبت الرقباء .

العاشر : أنه كان في الظاهر مملوكا لها في الدار ، بحيث يدخل ويخرج ويحضر معها ولا ينكر عليه ، وكان الأنس سابقا على الطلب وهو من أقوى الدواعي ، كما قيل لامرأة شريفة من أشراف العرب : ما حملك على الزنى ؟ قالت : قرب الوساد ، وطول السواد ، تعني قرب وساد الرجل من وسادتي ، وطول السواد بيننا .

الحادي عشر : أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال ، فأرته إياهن ، وشكت حالها إليهن ؛ لتستعين بهن عليه ، واستعان هو بالله عليهن ، فقال : وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين [ سورة يوسف : 33 ] .

الثاني عشر : أنها توعدته بالسجن والصغار ، وهذا نوع إكراه ، إذ هو تهديد من يغلب على الظن وقوع ما هدد به ، فيجتمع داعي الشهوة ، وداعي السلامة من ضيق السجن والصغار .

الثالث عشر : أن الزوج لم يظهر منه الغيرة والنخوة ما يفرق به بينهما ، ويبعد كلا منهما عن صاحبه ، بل كان غاية ما قابلها به أن قال ليوسف : أعرض عن هذا وللمرأة : واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين وشدة الغيرة للرجل من أقوى الموانع ، وهنا لم يظهر منه غيرة .

ومع هذه الدواعي كلها فآثر مرضاة الله وخوفه ، وحمله حبه لله على أن اختار السجن على الزنى : قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه [ سورة يوسف : 33 ] .

وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه ، وأن ربه تعالى إن لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن ؛ صبا إليهن بطبعه ، وكان من الجاهلين ، وهذا من كمال معرفته بربه وبنفسه .

وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحكم ما يزيد على الألف فائدة ، لعلنا إن وفق الله أن نفردها في مصنف مستقل .

التالي السابق


الخدمات العلمية