الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

فصل

كمال اللذة في كمال المحبوب وكمال المحبة

وهذا أمر عظيم يجب على اللبيب الاعتناء به ، وهو أن كمال اللذة والفرح والسرور ونعيم القلب وابتهاج الروح تابع لأمرين : أحدهما : كمال المحبوب في نفسه وجماله ، وأنه أولى بإيثار المحبة من كل ما سواه .

والأمر الثاني : كمال محبته ، واستفراغ الوسع في حبه ، وإيثار قربه والوصول إليه على كل شيء .

وكل عاقل يعلم أن اللذة بحصول المحبوب بحسب قوة محبته ، فكلما كانت المحبة أقوى كانت لذة المحب أكمل ، فلذة العبد من اشتد ظمؤه بإدراك الماء الزلال ، ومن اشتد جوعه بأكل الطعام الشهي ، ونظائر ذلك على حسب شوقه وشدة إرادته ومحبته .

وإذا عرفت هذا ، فاللذة والسرور والفرح أمر مطلوب في نفسه ، بل هو مقصود كل حي وعاقل ، إذا كانت اللذة مطلوبة لنفسها فهي تذم إذا أعقبت ألما أعظم منها ، أو منعت لذة خيرا منها وأجل ، فكيف إذا أعقبت أعظم الحسرات ، وفوتت أعظم اللذات [ ص: 232 ] والمسرات ؟ وتحمد إذا أعانت على لذة عظيمة دائمة مستقرة لا تنغيص فيها ولا نكد بوجه ما ، وهي لذة الآخرة ونعيمها وطيب العيش فيها ، قال تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى [ سورة الأعلى : 16 - 17 ] .

وقال السحرة لفرعون لما آمنوا :

فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى [ سورة طه : 72 - 73 ] .

والله سبحانه وتعالى خلق الخلق لينيلهم هذه اللذة الدائمة في دار الخلد ، وأما الدنيا فمنقطعة ، ولذاتها لا تصفو أبدا ولا تدوم ، بخلاف الآخرة ، فإن لذاتها دائمة ، ونعيمها خالص من كل كدر وألم ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مع الخلود أبدا ، ولا تعلم نفس ما أخفى الله لعباده فيها من قرة أعين ، بل فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، وهذا المعنى الذي قصده الناصح لقومه :

ياقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد ياقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار [ سورة غافر : 38 - 39 ] .

فأخبرهم أن الدنيا يستمتع بها إلى غيرها ، وأن الآخرة هي المستقر .

وإذا عرفت أن لذات الدنيا ونعيمها متاع ، ووسيلة إلى لذات الآخرة ، ولذلك خلقت الدنيا ولذاتها ، فكل لذة أعانت على لذة الآخرة وأوصلت إليها لم يذم تناولها ، بل يحمد بحسب إيصالها إلى لذة الآخرة .

رؤية الله

إذا عرف هذا فأعظم نعيم الآخرة ولذاتها : هو النظر إلى وجه الرب جل جلاله ، وسماع كلامه منه ، والقرب منه ، كما ثبت في الصحيح في حديث الرؤية : فوالله ما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه ، وفي حديث آخر : إنه إذا تجلى لهم ورأوه ؛ نسوا ما هم فيه من النعيم .

[ ص: 233 ] وفي النسائي ومسند الإمام أحمد عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعائه : وأسألك اللهم لذة النظر إلى وجهك الكريم ، والشوق إلى لقائك وفي كتاب السنة لعبد الله ابن الإمام أحمد مرفوعا : كأن الناس يوم القيامة لم يسمعوا القرآن ، إذا سمعوه من الرحمن فكأنهم لم يسمعوا قبل ذلك .

وإذا عرف هذا ، فأعظم الأسباب التي تحصل هذه اللذة هو أعظم لذات الدنيا على الإطلاق ، وهي لذة معرفته سبحانه ، ولذة محبته ، فإن ذلك هو جنة الدنيا ونعيمها العالي ، ونسبة لذاتها الفانية إليه كتفلة في بحر ، فإن الروح والقلب والبدن إنما خلق لذلك ، فأطيب ما في الدنيا معرفته ومحبته وألذ ما في الجنة رؤيته ومشاهدته ، فمحبته ومعرفته قرة العيون ، ولذة الأرواح ، وبهجة القلوب ، ونعيم الدنيا وسرورها ، بل لذات الدنيا القاطعة عن ذلك تتقلب آلاما وعذابا ، ويبقى صاحبها في المعيشة الضنك ، فليست الحياة الطيبة إلا بالله .

وكان بعض المحبين تمر به أوقات فيقول : إن كان أهل الجنة في نعيم مثل هذا إنهم لفي عيش طيب ، وقد تقدم ذلك ، وكان غيره يقول : لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف .

وإذا كان صاحب المحبة الباطلة التي هي عذاب على قلب المحب ، يقول في حاله :


وما الناس إلا العاشقون ذوو الهوى فلا خير فيمن لا يحب ويعشق



ويقول غيره :


أف للدنيا إذا ما لم يكن     صاحب الدنيا محبا أو حبيبا



ويقول آخر :


ولا خير في الدنيا ولا في نعيمها     وأنت وحيد مفرد غير عاشق



ويقول الآخر :


اسكن إلى سكن تلذ بحبه     ذهب الزمان وأنت منفرد



ويقول الآخر :


تشكى المحبون الصبابة ليتني     تحملت ما يلقون من بينهم وحدي
فكانت لقلبي لذة الحب كلها     فلم يلقها قبلي محب ولا بعدي



فكيف بالمحبة التي هي حياة القلوب ، وغذاء الأرواح ، وليس للقلب لذة ، ولا نعيم ، ولا فلاح ، ولا حياة إلا بها ، وإذا فقدها القلب كان ألمه أعظم من ألم العين إذا فقدت نورها ، والأذن إذا فقدت سمعها ، والأنف إذا فقد شمه ، واللسان إذا فقد نطقه ، بل فساد القلب إذا خلا من محبة فاطره [ ص: 234 ] وبارئه وإلهه الحق أعظم من فساد البدن إذا خلا منه الروح ، وهذا الأمر لا يصدق به إلا من فيه حياة ،

وما لجرح ميت إيلام

.

والمقصود : أن أعظم لذات الدنيا هو السبب الموصل إلى أعظم لذة في الآخرة ، ولذات الدنيا ثلاثة أنواع :

فأعظمها وأكملها : ما أوصل لذة الآخرة ، ويثاب الإنسان على هذه اللذة أتم ثواب ، ولهذا كان المؤمن يثاب على ما يقصد به وجه الله ، من أكله ، وشربه ، ولباسه ، ونكاحه ، وشفاء غيظه بقهر عدو الله وعدوه ، فكيف بلذة إيمانه ، ومعرفته بالله ، ومحبته له ، وشوقه إلى لقائه ، وطمعه في رؤية وجهه الكريم في جنات النعيم ؟

النوع الثاني : لذة تمنع لذة الآخرة ، وتعقب آلاما أعظم منها ، كلذة الذين اتخذوا من دون الله أوثانا مودة بينهم في الحياة الدنيا يحبونهم كحب الله ، ويستمتعون بعضهم ببعض ، كما يقولون في الآخرة إذا لقوا ربهم :

ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون [ سورة الأنعام : 128 - 129 ] .

ولذة أصحاب الفواحش والظلم والبغي في الأرض والعلو بغير الحق .

وهذه اللذات في الحقيقة إنما هي استدراج من الله لهم ليذيقهم بها أعظم الآلام ، ويحرمهم بها أكمل اللذات ، بمنزلة من قدم لغيره طعاما لذيذا مسموما ؛ يستدرجه به إلى هلاكه ، قال تعالى : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [ سورة الأعراف : 182 - 183 ] .

قال بعض السلف في تفسيرها : كلما أحدثوا ذنبا أحدثنا لهم نعمة : حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين [ سورة الأنعام : 44 - 45 ] .

وقال تعالى لأصحاب هذه اللذة :

أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ سورة المؤمنون : 55 - 56 ] .

[ ص: 235 ] وقال في حقهم : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون [ سورة التوبة : 55 ] .

وهذه اللذة تنقلب آخرا آلاما من أعظم الآلام ، كما قيل :


مآرب كانت في الحياة لأهلها     عذابا فصارت في المعاد عذابا



النوع الثالث : لذة لا تعقب لذة في دار القرار ولا ألما ، ولا تمنع أصل لذة دار القرار ، وإن منعت كمالها ، وهذه اللذة المباحة التي لا يستعان بها على لذة الآخرة ، فهذه زمانها يسير ، ليس لتمتع النفس بها قدر ، ولا بد أن تشتغل عما هو خير وأنفع منها .

وهذا القسم هو الذي عناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رميه بقوسه ، وتأديبه فرسه ، وملاعبته امرأته ، فإنهن من الحق .

فما أعان على اللذة المطلوبة لذاتها فهو حق ، وما لم يعن عليها فهو باطل .

التالي السابق


الخدمات العلمية