الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائي " أني " بفتح الألف ، والتقدير : أرسلناه بأني ، وكأن الوجه بأنه لهم نذير ، ولكنه على الرجوع من الإخبار عن الغائب إلى خطاب نوح قومه . وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة " إني " بكسر الألف ، فحملوه على القول المضمر ، والتقدير فقال لهم : إني لكم نذير .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ما نراك إلا بشرا مثلنا " أي : إنسانا مثلنا ، لا فضل لك علينا . فأما الأراذل ، فقال ابن عباس : هم السفلة . وقال ابن قتيبة : هم جمع " أرذل " ، يقال : رجل رذل ، وقد رذل رذالة ورذولة . ومعنى الأراذل : الشرار .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " بادي الرأي " قرأ الأكثرون " بادي " بغير همز . وقرأ [ ص: 96 ] أبو عمرو بالهمز بعد الدال . وكلهم همز " الرأي " غير أبي عمرو . وللعلماء في معنى " بادي " إذا لم يهمز ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : أن المعنى : ما نرى أتباعك إلا سفلتنا وأرذالنا في بادي الرأي لكل ناظر ، يعنون أن ما وصفناهم به من النقص لا يخفى على أحد فيخالفنا ، هذا مذهب مقاتل في آخرين .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أن المعنى أن هؤلاء القوم اتبعوك في ظاهر ما يرى منهم ، وطويتهم على خلافك .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : أن المعنى : اتبعوك في ظاهر رأيهم ، ولم يتدبروا ما قلت ، ولو رجعوا إلى التفكر لم يتبعوك ، ذكر هذين القولين الزجاج . قال ابن الأنباري : وهذه الثلاثة الأقوال على قراءة من لم يهمز ، لأنه من بدا ، يبدو : إذا ظهر . فأما من همز " بادئ " فمعناه : ابتداء الرأي ، أي : اتبعوك أول ما ابتدؤوا ينظرون ، ولو فكروا لم يعدلوا عن موافقتنا في تكذيبك .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " وما نرى لكم علينا من فضل " فيه ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : من فضل في الخلق ، قاله ابن عباس . والثاني : في الملك والمال ونحو ذلك ، قاله مقاتل . والثالث : ما فضلتم باتباعكم نوحا ، ومخالفتكم لنا بفضيلة نتبعكم طلبا لها ، ذكره أبو سليمان الدمشقي .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " بل نظنكم كاذبين " فيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : نتيقنكم ، قاله الكلبي . والثاني : نحسبكم ، قاله مقاتل .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " أرأيتم إن كنت على بينة من ربي " أي : على يقين وبصيرة . قال ابن الأنباري : وقوله : " إن كنت " شرط لا يوجب شكا يلحقه ، لكن [ ص: 97 ] الشك يلحق المخاطبين من أهل الزيغ ، فتقديره : إن كنت على بينة من ربي عندكم . " وآتاني رحمة من عنده " فيها قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنها النبوة ، قاله ابن عباس . والثاني : الهداية ، قاله مقاتل .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " فعميت عليكم " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : " فعميت " بتخفيف الميم وفتح العين . قال ابن قتيبة : والمعنى عميتم عنها ، يقال عمي علي هذا الأمر : إذا لم أفهمه ، وعميت عنه بمعنى . قال الفراء : وهذا مما حولت العرب الفعل إليه ، وهو في الأصل لغيره ، كقولهم : دخل الخاتم في يدي ، والخف في رجلي ، وإنما الإصبع تدخل في الخاتم ، والرجل في الخف ، واستجازوا ذلك إذ كان المعنى معروفا . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : " فعميت " بضم العين وتشديد الميم . قال ابن الأنباري : ومعنى ذلك : فعماها الله عليكم إذ كنتم ممن حكم عليه بالشقاء . وكذلك قرأ أبي بن كعب ، والأعمش : " فعماها عليكم " .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي المشار إليها قولان : أحدهما : البينة والثاني : الرحمة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " أنلزمكموها " أي : أنلزمكم قبولها ؟ وهذا استفهام معناه الإنكار ، يقول : لا نقدر أن نلزمكم من ذات أنفسنا . قال قتادة : والله لو استطاع نبي الله صلى الله عليه وسلم لألزمها قومه ، ولكن لم يملك ذلك . وقيل : كان مراد نوح عليه السلام رد قولهم : " وما نرى لكم علينا من فضل " فبين فضله وفضل من آمن به بأنه على بينة من ربه ، وقد آتاه رحمة من عنده وسلب المكذبون ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " لا أسألكم عليه " أي : على نصحي ودعائي إياكم " مالا " فتتهموني . وقال ابن الأنباري : لما كانت الرحمة بمعنى الهدى والإيمان ، جاز تذكيرها .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 98 ] قوله تعالى : " وما أنا بطارد الذين آمنوا " قال ابن جريج : سألوه طردهم أنفة منهم ، فقال : لا يجوز لي طردهم ، إذ كانوا يلقون الله فيجزيهم بإيمانهم ، ويأخذ لهم ممن ظلمهم وصغر شؤونهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله : " ولكني أراكم قوما تجهلون " قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : تجهلون أن هذا الأمر من الله تعالى ، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : تجهلون لأمركم إياي بطرد المؤمنين ، قاله أبو سليمان .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية