الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  الحق الرابع على اللسان بالنطق

                                                                  الأخوة كما تقتضي السكوت عن المكاره تقتضي أيضا النطق بالمحاب ، بل هو أخص بالأخوة لأن من قنع بالسكوت صحب أهل القبور ، وإنما يراد الأخوة ليستفاد منهم لا ليتخلص عن أذاهم ، والسكوت معناه كف الأذى ، فعليه أن يتودد إليه بلسانه ويتفقده في أحواله التي يحب أن يتفقد فيها ، كالسؤال عن عارض إن عرض وإظهار شغل القلب بسببه واستبطاء العافية عنه ، وكذا جملة أحواله التي يكرهها ينبغي أن يظهر بلسانه وأفعاله كراهتها ، وجملة أحواله التي يسر بها ينبغي أن يظهر بلسانه مشاركته له في السرور بها ، فمعنى الأخوة المساهمة في السراء والضراء وقد قال عليه السلام : " إذا أحب أحدكم أخاه فليخبره " وإنما أمر بالإخبار لأن ذلك يوجب زيادة حب ، فإن عرف أنك تحبه أحبك بالطبع لا محالة ، فلا يزال الحب يتزايد من الجانبين ويتضاعف ، والتحاب بين المؤمنين مطلوب في الشرع ومحبوب في الدين ، ولذلك علم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه الطريق فقال : " تهادوا تحابوا " .

                                                                  ومن ذلك : أن تدعوه بأحب أسمائه إليه في غيبته وحضوره ، قال " عمر " رضي الله عنه : " ثلاث يصفين لك ود أخيك " أن تسلم عليه إذا لقيته أولا ، وتوسع له في المجلس ، وتدعوه بأحب أسمائه إليه " .

                                                                  ومن ذلك : أن تثني عليه بما تعرف من محاسن أحواله عند من يؤثر هو الثناء عنده ، فإن ذلك من أعظم الأسباب في جلب المحبة ، وكذلك الثناء على أولاده وأهله وصنعته وفعله حتى عقله وخلقه وهيئته وخطه وتصنيفه وجميع ما يفرح به وذلك من غير كذب وإفراط ، ولكن [ ص: 135 ] تحسين ما يقبل التحسين لا بد منه . وآكد من ذلك أن تبلغه ثناء من أثنى عليه مع إظهار الفرح ، فإن إخفاء ذلك محض الحسد .

                                                                  ومن ذلك : أن تشكره على صنيعه في حقك بل على نيته وإن لم يتم ذلك ، وأعظم من ذلك تأثيرا في جلب المحبة الذب عنه في غيبته مهما قصد بسوء أو تعرض لعرضه بكلام صريح أو تعريض ، فحق الأخوة التشمير في الحماية والنصرة وتبكيت المتعنت وتغليظ القول عليه ، والسكوت عن ذلك موغر للصدر ، ومنفر للقلب ، وتقصير في حق الأخوة ، وإهماله لتمزيق عرضه كإهماله لتمزيق لحمه ، فأخسس بأخ يراك والكلاب تفترسك وتمزق لحومك وهو ساكت لا تحركه الشفقة والحمية للدفع عنك ، وتمزيق الأعراض أشد على النفوس من تمزيق اللحوم ، ولذلك شبهه الله تعالى بأكل لحوم الميتة فقال : ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ) [ الحجرات : 12 ] فإذن حماية الأخوة بدفع ذم الأعداء وتعنت المتعنتين واجب في عقد الأخوة ، وقال بعضهم : " ما ذكر أخ لي بغيب إلا تصورته جالسا فقلت فيه ما يحب أن يسمع لو حضر " .

                                                                  ومن ذلك : التعليم والنصيحة فليس حاجة أخيه إلى العلم بأقل من حاجته إلى المال ، فإن كنت غنيا بالعلم فعليك مواساته من فضلك وإرشاده إلى كل ما ينفعه في الدين والدنيا ، فإن علمته وأرشدته ولم يعمل بمقتضى العلم فعليك النصيحة وذلك بأن تذكر آفات ذلك الفعل وفوائد تركه ، وتخوفه بما يكرهه في الدنيا والآخرة لينزجر عنه ، وتنبهه على عيوبه ، ولكن ينبغي أن يكون ذلك في سر لا يطلع عليه أحد ، فما كان على الملأ فهو فضيحة ، وما كان في السر فهو شفقة ونصيحة ، قال " ذو النون " : " لا تصحب مع الله إلا بالموافقة ، ولا مع الخلق إلا بالمناصحة ، ولا مع النفس إلا بالمخالفة " .

                                                                  ولا تظنن أن في نصح أخيك إيحاشا لقلبه ، فإن في تنبيهه على ما لا يعلمه عين الشفقة وهو استمالة القلوب - أعني قلوب العقلاء - وأما الحمقى فلا يلتفت إليهم ، فإن من ينبهك على فعل مذموم تعاطيته أو صفة مذمومة اتصفت بها لتزكي نفسك عنها كان كمن ينبهك على حية أو عقرب تحت ذيلك وقد همت بإهلاكك ، فإن كنت تكره ذلك فما أشد حمقك ، والصفات الذميمة عقارب وحيات وهي في الآخرة مهلكات ، فإنها تلدغ القلوب والأرواح وألمها أشد مما يلدغ الظواهر والأجساد ، وهي مخلوقة من نار الله الموقدة ، ولذلك كان " عمر " رضي الله عنه يستهدي ذلك من إخوانه ويقول : " رحم الله امرأ أهدى إلى أخيه عيوبه " . ومن كتاب بعض [ ص: 136 ] السلف لأخيه : " اعلم أن من قرأ القرآن وآثر الدنيا لم آمن أن يكون بآيات الله من المستهزئين " . وقد وصف الله الكاذبين ببغضهم للناصحين إذ قال : ( ولكن لا تحبون الناصحين ) [ الأعراف : 79 ] وهذا في عيب هو غافل عنه ، فأما ما يظهره فلا بد من التلطف بنصحه بالتعريض مرة والتصريح أخرى إلى حد لا يؤدي إلى الإيحاش ، فإن علمت أن النصح غير مؤثر فيه وأنه مضطر من طبعه إلى الإصرار عليه فالسكوت عنه أولى ، وهذا كله فيما يتعلق بمصالح أخيك في دينه أو دنياه . أما ما يتعلق بتقصيره في حقك فالواجب فيه الاحتمال والعفو والصفح والتعامي عنه ، والتعرض لذلك ليس من النصح في شيء ، نعم إن كان بحيث يؤدي استمراره عليه إلى القطيعة فالعتاب في السر خير من القطيعة ، والتعريض به خير من التصريح ، والمكاتبة خير من المشافهة ، والاحتمال خير من الكل .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية