الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              حدثنا أبو محمد بن حيان ، ثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن ، قال قرأت على عبد العزيز بن محمد الدمشقي ، عن أحمد بن عاصم الأنطاكي ، قال : " إني أدركت من الأزمنة زمانا عاد فيه الإسلام غريبا كما بدأ وعاد وصف الحق فيه غريبا كما بدأ ، إن نزعت فيه إلى عالم وجدته مفتونا بالدنيا يحب التعظيم والرياسة ، وإن نزعت إلى عابد وجدته جاهلا في عبادته مجذوما صريع عدوه إبليس ، قد صعد به إلى أعلى سطح في العبادة وهو جاهل بأدناها فكيف له بأعلاها ؟ وسائر ذلك من الرعاع فقبيح أعوج وذئاب مختلسة وسباع ضارية وثعالب جارية ، هذا وصف عيون مثلك في زمانك من حملة العلم والقرآن ودعاة الحكمة ، وذلك أني لست أرى عالما إلا مغلوبا على عقله ، بعيدا غور فطنته لمضرته لأمور دنياه ، متبعا هواه ، معجبا برأيه ، شحيحا على دنياه سمحا بدينه ، متعزما بمذموم القضاء معانقا لهواه فيما يرضى غير متنقل عما يكره الله تعالى منه بل مستزيدا من أنواع الفتنة والبلاء ، محتملا شقاء الدنيا بالشهوة ، قاسيا قلبه ، عظيمة غفلته عما خلق له ، مستبطئا لما يدعى مما قد ضمن له ، غير واثق بالله ، مفقود منه خوف ما قد استوجب به النار ، معترض للموت فيما يستقبل ، مشغوف بدنياه ، غافل عن آخرته عاشق للذهب والفضة زاهد فيما ندب إليه من الشوق ، فكما أنه ضعف يقينه فيما يتشوق إليه ، كذلك كان أمنه عند الوعيد ، فعندها كان ناسيا لذنوبه ذاكرا محاسنه ، قد صيرها نصب عينيه وآثامه تحت قدميه ، داخلا فيما لا يعنيه ، مشغوفا بالدنيا لا يقنعه قليلها ولا يشبعه كثيرها ولا يسعى ولا يكدح إلا لها ، ولا يفرح ولا يتزين إلا لها ، ولا يرضى ويسخط إلا لها ، راض بحظه بقليل حظه المتروك التنقل عنه من كثير حظه من آخرته ، بل راض بحظه من المخلوقين من حظه من خالقه ، خائف من فقر بدأ منه ، آمن من معاص قد [ ص: 287 ] قدمها وعقوبات قد استحقها ، متزين للخلائق بما يسقطه عند خالقه ، مؤيس منه غير موثوق به .

              متحرزون يتزينون بالكلام في المجالس ، يتكبرون في مواطن الغضب ، عند خلاف الهوى ذئاب ، أقران عند ممارسة الدنيا ، طلس دجر جرائزه ، فالطمع الكاذب يستميله ، والهوى المردي يخلق مروءته ويسلبه نور إسلامه ، ولم يكن على حقيقة خوف فنزع به الامتحان إلى جوهره وطباعه ، والله المستعان .

              فتعقل الآن وصف من هذا ؟ وصف عيون ملتك في زمانك ، فاعتبروا يا أولي الأبصار ، واتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا ، ولهم أوجب الثواب ، ثم نبههم لعظم المنة في قسم العقول ، ولم يعذر بالتقصير من ضيع شكره وآثر هواه ، ذلك بأن الله تعالى خلق الهوى فجعله ضدا للعقل ، وجعل للعقل شكلا وهو العلم ، والهوى والباطل شكلان مؤتلفان قرينان يدعوان إلى مذموم العواقب للدنيا والآخرة ، هيهات يا أهل العقول ، من الذي يحظر على الله عز وجل مواهبه ؟ ومن الذي يمنحه الله تعالى منحة فيحجب عنه ؟ ومن الذي يمنعه الله عز وجل شيئا فيوجد عنده ؟ هل للعباد إلى الله تعالى من حاجة بعد تركيب جوارحهم ؟ الخير للثواب والشر للعقاب ، فحركات الخير والشر من الطاعات والمعاصي ، فخلق سبحانه هذه الأسباب بلا شرح ترجمة منا ، جعلها بقدرته أضدادا ولم يدع مستغلقا إلا جعل له مفتاحا ، ولا شكلا إلا جعل عليه تبيانا واضحا ، فلا إله إلا الذي خلق للخير أسبابا لا يستطيع العباد أن يصلوا إلى شيء من أعمال الخير إلا بتلك الأسباب ، وهي حاجزة عن المعاصي ، إذ أسكنها الله تعالى قلب من أحبه واستعمله به " .

              حدثنا أبي قال : سمعت عثمان بن محمد ، يقول : سمعت أبا محمد بن يوسف ، يقول : قال أبو عبد الله أحمد بن عاصم الأنطاكي : " استكثر من الله عز وجل لنفسك قليل الرزق تخلصا إلى الشكر ، واستقلل من نفسك لله كثير الطاعة ازدراء على النفس وتعرضا للعفو ، وارفع عنك حاضرا ليس بحاضر العلم بخالص العمل ، وتحرز في خالص العمل من عظيم الغفلة بشدة التيقظ ، واستجلب [ ص: 288 ] شدة التيقظ بشدة الخوف ، واحذر خفي التزين بحاضر الحياء ، واتق مجازفة الهوى بدلالة العقل ، وقف عند غلبته عليك لاسترشاد العلم ، واستبق خالص الأعمال ليوم الجزاء وانزل بساحة القناعة باتقاء الحرص ، وارفع عظيم الحرص بإيثار القناعة ، واستجلب حلاوة الزهد بقصر الأمل ، واقطع أسباب الطمع بصحة الإياس ، وتخلص إلى راحة القلب بصحة التفويض ، وأطفئ نار الطمع ببرد الإياس ، وسد سبيل العجب بمعرفة النفس ، واطلب راحة البدن بإجمام القلب ، وتخلص إلى إجمام القلب بقلة الخلطاء وترك الطلب ، وتعرض لرقة القلب بدوام مجالسة أهل الذكر من أهل العقول ، واستجلب نور القلب بدوام الحزن ، واستفتح باب الحزن بطول الفكر ، والتمس وجود الفكر في مواطن الخلوات ، وتحرز من إبليس بالخوف الصادق بمخالفة هواك ، وإياك والرجاء الكاذب فإنه يوقعك في الخوف الكاذب ، وامزج الرجاء الصادق بالخوف الصادق ، وتزين لله بالصدق في الأعمال ، وتحبب إليه بتعجيل الانتقال ، وإياك والتسويف فإنه بحر يغرق فيه الهلكى ، وإياك والغفلة فمنها سواد القلب ، وإياك والتواني فيما لا عذر فيه فإليه ملجأ النادمين ، واسترجع بسالف الذنوب شدة الندم وكثرة الاستغفار ، وتعرض لعفو الله بحسن المراجعة واستعن على حسن المراجعة بخالص الدعاء والمناجاة ، وتخلص إلى عظيم الشكر باستكثار قليل الرزق واستقلال كثير الطاعة ، واستجلب زيادة النعم بعظيم الشكر ، واستدم عظيم الشكر بخوف زوال النعم ، واطلب بهاء العز بإماتة الطمع ، وادفع ذل الطمع بعز الإياس ، واستجلب عز الإياس ببعد الهمة ، واستعن على بعد الهمة بقصر الأمل ، وبادر بانتهاز البغية عند إمكان الفرصة بخوف فوات الإمكان ، ولا إمكان كالأيام الخالية مع صحة الأبدان ، وأحذرك سوف فإن دونه ما يقطع بك عن بغيتك ، وإياك والثقة بغير المأمون فإن للشر ضراوة كضراوة الغذاء ، ولا عمل كطلب السلامة ، ولا سلامة كسلامة القلب ، ولا عقل كمخالفة الهوى ، ولا عز كعز اليأس ، ولا خوف كخوف حاجز ، ولا رجاء كرجاء معين ، ولا فقر كفقر القلب ، ولا غنى كغنى النفس ، ولا قوة كغلبة [ ص: 289 ] الهوى ، ولا نور كنور اليقين ، ولا يقين كاستصغارك الدنيا ، ولا معرفة كمعرفة نفسك ، ولا نعمة كالعافية ، ولا عافية كمساعدة التوفيق ، ولا شرف كبعد الهمة ، ولا زهد كقصر الأمل ، ولا حرص كالمنافسة في الدرجات ، ولا عدل كالإنصاف ، ولا تعدي كالجور ، ولا جور كموافقة الهوى ، ولا طاعة كأداء الفرائض ، ولا مصيبة كعدم العقل ، ولا عدم عقل كقلة اليقين ، ولا قلة يقين كفقدك الخوف ، ولا فقد خوف كقلة الحزن على فقدك الخوف ، ولا مصيبة كاستهانتك بذنبك ورضاك بالحالة التي أنت عليها ، ولا مشاهدة كاليقين ، ولا فضيلة كالجهاد ، ولا جهاد كمجاهدة هذه النفس ، ولا غلبة كغلبة الهوى ولا قوة كرد الغضب ولا معصية كحب البقاء ، وإن حب الدنيا لمن أحب البقاء ، ولا ذل كالطمع ، وإياك والتفريط عند إمكان الفرصة فإنه ميدان يجري لأهله بالحسرات ، والعقول معادن للرأي ، والعلم دلالة على اختيار عواقب الأمور بإقبال مواردها وتصرف مصادرها ، والتزين اسم لمعان ثلاثة : فمتزين بعلم ومتزين بجهل ، ومتزين بترك التزين وهو أعمقها وأحبها إلى إبليس من العالم " .

              حدثنا أبي ، وأبو محمد بن حيان ، قالا : ثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن ، ثنا أحمد بن عبد العزيز بن محمد الأنطاكي ، قال : سمعت أبا عبد الله الأنطاكي يقول : إني تبحرت العلوم وجربت الأصول وأدمت الفكر ، وألهمت الاعتبار وعنيت بالأذكار ، وطالعت الحكمة ودارست الموعظة وتدبرت القول بالمعقول ، وصرفت المعاني بالذهن ، فلم أجد من العلم علما ولا للصدر أشفى ، ولا للهم أتقى ، ولا للقلب أحيا ، ولا للخير أجلب ولا للشر أذهب ، ولا على القلب أغلب ، ولا بالعبد أولى من علم معرفة المعبود وتوحيده والإيمان واليقين بآخرته ؛ ليصح الخوف من عقابه والرجاء لثوابه ، والشكر على نعمه ، والفكر ليست لها غاية ، والإلهام لا نهاية له ، وبدلالات العقول علمت العزم ، وبقوة العزم يقهر الهوى ، وإنما يوصل إلى حقائق الأخبار بالعناية والتفهم والتدبر ، فعند ذلك يصح الإيقان ، وتصح الأعمال وإلا كانت أعمال الارتياب ، ليس الملك من تابع هواه ونال ملك الدنيا ، بل الملك من ملك هواه واستصغر ملك الدنيا .

              [ ص: 290 ] حدثنا أبي ، وعبد الله بن محمد بن جعفر ، قالا : ثنا إبراهيم بن محمد بن الحسين ، قال : أخبرني عبد العزيز بن محمد ، قال : قال أبو عبد الله الأنطاكي : " عرض للخلائق عارض من الهوى أقعد المريد ، وألهى العاقل فلا العاقل عرف داءه ولا المريد طلب دواءه ، ومن استعصم بالله عصم ومن عصم حجب عن المعاصي ، ومن توقى وقي ، ومن التمس العافية عوفي ، ومن استسلم إلى نفسه حجب عن الطاعة وغلبه الهوى فسلك به سبيل الردى واستحوذ عليه الشيطان فكان من الغاوين ، والمحروم من حرم السؤال ، والسؤال مفتاح الإجابة ، والكريم يعطي قبل السؤال ، وأكثر منن الله على عبده قبل السؤال ، استغن عمن عدل عنك بوجهه ، وخل الطريق لمن لا يفيق ، ولا تحجب النصح عن مستفيق ، واقصد لقلبك قصد الطريق ، واحبس لسانك حبس المضيق ، والق الصديق بوجه طليق ، وعامل الله بقلب سليم ، وحاسب النفس بالحساب الدقيق ، ما بال أعمال الآخرة لا تبين فينا ، وغلبنا بالسهو منا والغفلة والتقصير فيها ، وإنما وضح وصح أن مطالبتنا الدنيا من تقصيرنا ، ومطالبتنا آمال الآخرة فألا من نقصها ، وأول درجات العلم الخوف من فوات الآمال ، ومن أعجب بعمل حرص أن يتمه ، ومن رأى ثوابه أحب أن يتقنه ، ومن تآخى الحكمة شغل عما سواها ، ومن قر عينا بشيء لهج بذكره ، والأقاويل محفوظة إلى يوم تلقاها ، وكل نفس رهينة بما قدمت يداها ، والناس منقوصون مدخولون فالمستمع غائب والسائل متغيب ، والمجيب متكلف ، أدنى الرضى يزيل أعمالهم ، وأدنى السخط يزيل كل إحسان عندهم ، والعجب يمحق العبادة ، ويزري من العقل ، وما وجدت فقرا أضر من الجهل ، ولا مالا أعدم من العقل ، والخوف يكسب الورع ، واليقين يكسب الخوف ، وصحة التركيب من ذوي الألباب يكسب اليقين ، والمشاورة تجتلب المظاهرة ، والتدبير دليل على عقل العاقل ، وصحة الورع من علامات الخوف ، وحسن الخلق يجتلب كرم الحسب ، وسوء الخلق يشين ذوي الأحساب ، ومن عقل أيقن ، ومن أيقن خاف ، ومن خاف صبر ، ومن صبر ورع ، ومن ورع أمسك عن الشبهات ونفى الحرص ، فعند ذلك دارت رحى [ ص: 291 ] العبد بأعمال الطاعات لله ، ومن سحق عقله ضعف يقينه ، ومن ضعف يقينه فقد منه خوفه وظهر منه أمنه ، ومن ظهر منه أمنه كثرت غفلته ، ومن كثرت منه غفلته قسا منه قلبه ، ومن قسا منه قلبه لم ينجح فيه موعظة وغلب عليه حب دنياه ، وكثرت فيه أعمال آخرته بلا حقيقة خوف ، والله المستعان " .

              حدثنا أبي قال : سمعت عثمان بن محمد بن يوسف يقول : سمعت أبي محمد بن يوسف يقول : قال أحمد بن عاصم : كتب رجل إلى أخيه : أما بعد فاطلب ما يعنيك بترك ما لا يعنيك ، فإن ترك ما لا يعنيك درك لما يعنيك ، قال : وكتب رجل إلى أخيه : أما بعد فالله الله ، اسمع أحدثك عنه إنه لم يرفع المتواضعين بقدر تواضعهم ولكن بقدر كرمه وجوده ، ولم يفرح المحزونين بقدر حزنهم ، ولكن بقدر رأفته ورحمته ، فما ظنك بالتواب الرحيم الذي يتودد إلى من يؤذي به ؟ فكيف بمن يؤذى فيه ؟ وما ظنك بالتواب الرحيم الكريم الذي يتوب على من يعاديه ؟ فكيف بمن يعادى فيه ؟ والذي يتفضل على من يسخطه ويؤذيه ، فكيف بمن يترضاه ويختار سخط العباد فيه ؟

              حدثنا سليمان بن أحمد ، ثنا أحمد بن محمد بن موسى الأنطاكي ، قال : سمعت أبا عبد الله أحمد بن عاصم الأنطاكي يقول : " أشر مكنة الرجل البذاء - وهو الوقيعة منه وهي الغيبة - وذلك أنه لا ينال بذلك منفعة في الدنيا ولا في الآخرة بل يبغضه عليه المتقون ويهجره الغافلون وتجتنبه الملائكة وتفرح به الشياطين ، ويقال إنها تفطر الصائم ، وتنقض الوضوء ، وتحبط الأعمال وتوجب المقت ، والغيبة والنميمة قرينتان ومخرجهما من طريق البغي ، والنمام قاتل ، والمغتاب آكل الميتة ، والباغي مستكبر ، ثلاثتهم واحد وواحدهم ثلاثة ، فإذا عود نفسه ذلك رفعه إلى درجة البهتان فيصير مغتابا مباهتا كذابا ، فإذا ثبت فيه الكذب والبهتان صار مجانبا للإيمان " ، قال أحمد بن عاصم : " ولا يكسب بالغيبة تعجيل ثناء ، ولا يبلغ به رئاسة ، ولا يصل به إلى مزية في دنيا من مطعم أو ملبس ولا مال ، وهو عند العقلاء منقوص ، وعند العامة سفيه ، وعند الأمناء خائن ، وعند الجهال مذموم ، ولا يحتمله في نقص إلا من كان في [ ص: 292 ] مثل حاله ، وما وجدت في الشر نوعا أكثر منه ضررا في العاجل والآجل ولا أقل نفعا ولا أظهر جهلا ولا أعظم وزرا من مكتسبيه ، يبغضه عليه المتقون ، ويحذره الفاسقون ويهجره العاقلون ، والغيبة اسم لثلاثة معان ، ورابعها كبيرة تنبت عيب غيرك في القلب فتكره أن تتكلم به خوف عادية ، والمعنى الثاني أن تذكر باللسان وتكره أن تذكر اسم الرجل بعينه ، والثالث معناه في القلب والعفو ، وذكر الغيبة باللسان ، فأما إظهارك اسم الرجل فالغيبة المصرحة التي لم يبق صاحبها على نفسه ولا على جلسائه ، فإذا صح ذلك في العبد رقي منه إلى درجة البهتان ، فذكر فيه ما ليس فيه فصار مباهتا مغتابا نماما كاذبا باغيا لم يمتنع من خصلة من هذه الخصال التي ذكرتها ، وذلك كله مجانب لليقين مثبت للشك ، واعلم أن مخرج الغيبة من تزكية النفس ، ومن شدة رضى صاحبها عن نفسه ، وإنما اغتبته بما لم تر فيك مثله أو شكله ، ولم يغتب بشيء إلا ما احتملت لنفسك من العيب أكثر مما اغتبت إن كنت جاهلا بكثرة عيوب نفسك ، أو كنت عارفا بها ، وإنما يقبلها منك من هو مثلك ولو علمت أن فيك من النقصان أكثر مما تريد أن تنقص به لحجزك ذلك عن غيبة غيرك ولاستحييت أن تغتاب غيرك بما فيك من العيوب ، إذا عرفت وأنت مصر عليها ، فجرمك أعظم من جرم غيرك ، وإنما يساعدك على القبول منك من هو أعمى قلبا منك بمعرفة عيوب نفسه ، ولولا ذلك لما اجترأت على ذكر عيب غيرك عنده ، فاحذر الغيبة كما تحذر عظيم البلاء ، فإن الغيبة إذا ثبتت في القلب وأذن صاحبها في احتمالها بالرضى لسكونها حتى توسع لأخواتها معها في المسكن ، وأخواتها : النميمة والبغي وسوء الظن والبهتان العظيم والكذب ، فاحذرها فإنها مزرية في الدنيا بصاحبها ، ومخزية له في الآخرة ؛ لأن الغيبة حرام في التنزيل ، فمن صحت فيه الغيبة صح فيه الكذب والبهتان ؛ وذلك لأنهما مجانبان للإيمان ؛ لأن الله تعالى حرم من المؤمن على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ماله ودمه ، وأن يظن به ظن السوء ، وإنما الظن في القلب دون الإظهار فكيف بمن يظهر ما في القلب باللسان ما يعارض به عيب غيره بما [ ص: 293 ] يعرف من عيوب نفسه ، فهو رضي منه بعيوبها ، فإن همت النفس بعيوب غيرها فردها إلى عيوب نفسك ؛ لأنك إن لقيت عالما ناصحا فاستشرته في أمر في أي المواضع أنزل وأسكن ؟ قال : اذهب واتق الله حيثما كنت واحمل أمرك ، قال : فجعلت أستزيده فلا يزيدني .

              حدثنا إسحاق بن أحمد بن علي ، ثنا إبراهيم بن يوسف ، ثنا أحمد بن أبي الحواري ، ثنا أبو عبد الله الأنطاكي ، قال : كتب أخ لعبيد الله إلى يونس بن عبيد : أما بعد يا أخي كيف أنت ؟ وكيف حالك ؟ فكتب إليه يونس : " سألتني عن حالي وأخبرك : أن نفسي قد ذلت لي بصوم يوم بعيد الطرفين شديد الحر ، ولن تذل لي بترك الكلام فيما لا يعنيه " .

              حدثنا أحمد بن إسحاق ، حدثنا إبراهيم بن نائلة ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال : سمعت أبا عبد الله الأنطاكي يقول : إذا صارت العاملة إلى القلب ارتاحت الجوارح .

              حدثنا محمد بن جعفر المكتب ، ثنا عبد الله بن محمد بن يعقوب ، ثنا أبو حاتم ، ثنا أحمد بن أبي الحواري ، قال : سمعت أبا عبد الله أحمد بن عاصم الأنطاكي يقول : " ما من عافية إلا وقد تقدمها عفو ، لولا العفو لجاءت البلية " .

              حدثنا أبي ، وأبو محمد بن حيان ، قالا : ثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن ، أخبرنا عبد العزيز بن محمد ، قال : سمعت الأنطاكي يقول : " إنه من عرف المعبود بخالص التوحيد وعظيم القدرة والسلطان والملك والجبروت والعدل وتظاهر النعم وجميل العفو والإحسان وكرم الصفح والتجاوز والمن والعطاء ، وجميل أفعاله - فعبده دون المخلوقين وقنع بكفايته ورضي من عظيم عقابه وأليم عذابه إما بسبيل رجاء لعظيم ثوابه وجزيل جزائه ، وإما على سبيل شكر مكافأة لنعم جنابه وكريم مآبه ، وإما على سبيل محبة وشوق إليه لحسن أياديه ، وجميل إحسانه لتواتر نعمائه وعظيم عطائه ، وإما على سبيل حب من جميل ستره وكريم صفحه من معرفة من يملك الضر والنفع والموت والحياة والنشور بأن تخرج معرفة الله وإخلاص توحيده من صحة التركيب وحجة [ ص: 294 ] المعقود وفضيلة الإلهام في الملكوت ودلالة العلم ، ومساعدة التوفيق وعناية العبد بنفسه والتدبير للاختبار والفكر في الاعتبار وطن الأذكار وغائص الفهم ، ونفاذ معرفة الإلهام في الملكوت لما دل عليه التنزيل قوله تعالى : ( أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء ) ففيما ذكرنا آيات للموقنين من العقلاء ، فقد ندب الله تعالى أولي الألباب للتدبير والاعتبار بما ظهر من شواهد آثار قدرته ؛ ليستدلوا به على ربوبيته وخالص توحيده ولطف صنعه بأنه بارئ البرايا ، وأما ما ندب إليه من الفكر من بعد قوله تعالى : ( وفي الأرض آيات للموقنين ) قال : ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) فالأحوال ثلاثة : حالة محمودة وحالتان مذمومتان : الحالة المحمودة ما دخل إليه اللطف ودلك عليه العقل والعلم ، والحالتان المذمومتان : الغفلة والأمن ، والحواس خمس وسادسها الملك وهو القلب ، فالحواس المؤدية للأخبار فعلى قدر ما أدت الحواس من الأخبار يكون تدبير الملك ، ومن خاف ضرر أحوال الغفلة من قلبه أكثر التفقد من قلبه ، ومن عرض أحواله على عقله لم تكذبه صحة النظر ، ومن قدم النظر أمام البصر أفاده النظر بصرا ، قلت : وما معنى النظر ؟ قال : تدبر الخير إذا ورد ومعرفته إذا صدر ، قلت : فإذا أفاده النظر بصرا يكون ماذا ؟ قال : يصبح بالنظر بصيرا فيوضح له البصر اليقين بمحمود العواقب فيحتمل لذلك مئونة العمل قبل ابتغاء الثواب ، وعلى العاقل أن يوقف نفسه على ما يؤمل ويستجرها في يومها ويبصرها ما يرتجيه في غده ، فعند ذلك تلقي إليه نفسه معاذير العجز عندما صدقها العبد ، فالحليم لا يخدع والعاقل لا يغش نفسه ، ومن فكر ألهم ، ومن ألهم استحكم الأمور والعقل ، وفي العناية هم ، وفي الفرح تحصيل الأعمال وسرور الأبرار ، ولكل شر مظان يعقب فيه السرور عنده أو الهموم ، بإغفال الحذر تصاب المقاتل ، ومن أمكن عدوه بسلاح نفسه قتل ، ففطرت النفوس على قبول الحق فعارضها الهوى فاستمالها فآثرت الحق بالدعوى وآثرت أعمالها بالهوى ، ولا يستحق المأمول بالشك ، وإنما يوصل إلى فهم المعرفة أجناسها ، كما [ ص: 295 ] يصل التاجر إلى أرباح الثياب بمعرفة أصنافها ، وبقوة العزم يقهر الهوى ، ولا يصل إلى الشيء بضده ، ولا يكون من ترك الشيء أخذه ، على قدر اليقين يتعطل ويضمحل الشك ، وبأدنى الشك يضمحل اليقين ، واستقر منار الهدى بالأنبياء ، وقامت حجج الله عز وجل بأولي العقول ، فآخذ بحظه ومضيع لنفسه ، فلا حمد لآخذ ولا عذر لتارك ، فحجة الله على خلقه وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام كتابه " .

              حدثنا أبي ، وأبو محمد بن حيان ، قالا : ثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن ، قال : قرأت على عبد العزيز بن محمد عن الأنطاكي ، قال : " اعلم أن الجاهل من قل صبره على علاج عدوه لنجاته بل ساعد عدوه على مجاهدته ، فذلك أهل أن يضحك به الضاحكون ، والكلام كثير موجود وجوهره عزيز مفقود ، فإن العلم الكثير الذي يحتاج منه القليل ، والأعمال كثيرة والصدق في الأعمال قليل ، والأشجار كثيرة وطيب ثمرتها قليل ، والبشر كثير وأهل العقول قليل ، فاستدرك ما قد فات بما بقي ، واستصلح ما قد فسد فيما بقي أو وضح ، وبادر في مهلتك قبل الأخذ بالكظم ، وأعد الجواب قبل المسألة ، فقد وجدتك تعد الجوابات لحكام الدنيا قبل مسألتهم إياك ، فماذا أعددت من الجوابات لحكم السماء من صدق الجوابات ؟ وتقدم في الاجتهاد لتدفع به خطر الاعتذار ؛ فإنك عسيت لا يقبل منك المعذرة مع إحاطة الحجج بك وشهادات العلم عليك واعتراف العقول بالاستهانة لمن لا بد لك من لقائه ، فاحذر من قبل أن يجافيك الأمر على عظم غفلتك فيفوتك إصلاح ما قد فات مع هموم الدنيا ما هو آت من قبل الإياس منك عند انقطاع الأجل والأخذ بالكظم مع زوال النعم حين لا يوصل إلا إلى الندامة ، فيا لها من حسرة إن عقلت الحسرة ، ويا لها من موعظة لو صادفت من القلوب حياة ، وأنا موصيك ونفسي من بعد بوصية إن قبلت عشت في الدنيا حكيما مؤدبا فيها سليما ، وخرجت من الدنيا فقيرا مغتبطا فيها مغبوطا وفي الآخرة متوجا ملكا " .

              حدثنا أبي ، ثنا عباس بن حمزة ، ثنا أحمد بن أبي الحواري ، قال : سمعت أبا [ ص: 296 ] عبد الله الأنطاكي ، يقول : " كفى بالعبد عارا أن يدعي دعوة ثم لا يحققها بفعله ، أو يجعل لغير ربه من قلبه نصيبا ، أو يستوحش مع ذكره حتى يريد به بدلا ، ينبغي للعبد أن يشتغل بتصحيح ضميره ويعلم مع من معاملته وما يطلب ، وممن يهرب ، فإنه إذا عرف ذلك طلب من نفسه الحقائق ولم يلق ربه كالعبد الآبق " .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية