الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 777 ] 115 - قوله: (ص): "ثم قد يقع الاضطراب في المتن وقد يقع في الإسناد، وقد يقع ذلك من راو واحد وقد يقع من رواة" . انتهى.

[كلام العلائي على الحديث المعلول:]

قسم المصنف الاضطراب إلى أربعة أقسام ولم يمثل إلا لقسم واحد.

وقد تكلم الحافظ العلائي في مقدمة الأحكام على الحديث المعلول بكلام طويل مفيد نقلت منه ما يتعلق بما نحن فيه هنا ملخصا لأنه شامل لكل ما يتعلق بتعليل الحديث من اضطراب وغيره. قال: وهذا الفن أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكا ولا يقوم به إلا من منحه الله فهما غايصا واطلاعا حاويا وإدراكا لمراتب الرواة ومعرفة ثاقبة.

ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذاقهم كابن المديني والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم وأمثالهم.

وإنما يقوي القول بالتعليل - يعني فيما ظاهره الصحة - عند عدم المعارض، وحيث يجزم المعلل بتقديم التعليل أو أنه الأظهر، فأما إذا اقتصر على الإشارة إلى العلة فقط بأن يقول - مثلا - في الموصول: رواه فلان مرسلا أو نحو ذلك، ولا يبين أي الروايتين أرجح، فهذا هو الموجود كثيرا في كلامهم، ولا يلزم منه رجحان الإرسال على الوصل.

قال: والاختلاف تارة في السند، وتارة في المتن.

[ أقسام الاختلاف في السند :]

فالذي في السند يتنوع أنواعا:

[ ص: 778 ] 1- أحدها: تعارض الوصل والإرسال.

2- ثانيها: تعارض الوقف والرفع.

3- ثالثها: تعارض الاتصال والانقطاع.

4- رابعها: أن يروي الحديث قوم - مثلا - عن رجل عن تابعي عن صحابي، ويرويه غيرهم عن ذلك الرجل عن تابعي آخر عن الصحابي بعينه.

5- خامسها: زيادة رجل في أحد الإسنادين.

6- سادسها: الاختلاف في اسم الراوي ونسبه إذا كان مترددا بين ثقة وضعيف.

فأما الثلاثة الأول: فقد تقدم القول فيها.

وأن المختلفين إما أن يكونوا متماثلين في الحفظ والإتقان (أم لا) فالمتماثلون إما أن يكون عددهم من الجانبين سواء أم لا، فإن استوى عددهم مع استواء أوصافهم وجب التوقف حتى يترجح أحد الطريقين بقرينة من القرائن فمتى اعتضدت إحدى الطريقين بشيء من وجوه الترجيح حكم لها، ووجوه الترجيح كثيرة لا تنحصر، ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الأحاديث، بل كل حديث يقوم به ترجيح خاص لا يخفى على الممارس الفطن الذي أكثر من جمع الطرق.

ولأجل هذا كان مجال النظر في هذا أكثر من غيره، وإن كان أحد المتماثلين أكثر عددا فالحكم لهم على قول الأكثر.

وقد ذهب قوم إلى تعليله - وإن كان من وصل أو رفع أكثر.

والصحيح خلاف ذلك.

[ ص: 779 ] وأما غير المتماثلين، فإما أن يتساووا في الثقة أو لا، فإن تساووا في الثقة، فإن كان من وصل أو رفع أحفظ فالحكم له، ولا يلتفت إلى تعليل من علله بذلك - أيضا - إن كان العكس، فالحكم للمرسل والواقف.

وإن لم يتساووا في الثقة فالحكم للثقة، ولا يلتفت إلى تعليل من علله، برواية غير الثقة إذا خالف.

هذه جملة تقسيم الاختلاف، وبقي إذا كان رجال أحد الإسنادين أحفظ ورجال الآخر أكثر.

فقد اختلف المتقدمون فيه:

فمنهم: من يرى قول الأحفظ أولى لإتقانه وضبطه.

فمنهم: من يرى قول الأكثر أولى لبعدهم عن الوهم.

قال عمرو بن علي الفلاس : سمعت سفيان بن زياد يقول ليحيى بن سعيد في حديث سفيان ، عن أبي الشعثاء عن يزيد بن معاوية العبسي ، عن علقمة ، عن عبد الله - رضي الله تعالى عنه - في قوله تبارك وتعالى: ختامه مسك . فقال: يا أبا سعيد خالفه أربعة. قال: من هم؟

[ ص: 780 ] قال: زائدة وأبو الأحوص ، وإسرائيل وشريك .

فقال يحيى : لو كان أربعة آلاف مثل هؤلاء كان الثوري أثبت منهم.

قال الفلاس : وسمعته يسأل عن عبد الرحمن بن مهدي عن هذا فقال عبد الرحمن : هؤلاء قد اجتمعوا وسفيان أثبت منهم والإنصاف لا بأس به فأشار عبد الرحمن إلى ترجيح روايتهم لاجتماعهم ولا شك (أن) الاحتمال من الجهتين منقدح قوي، لكن ذاك إذا لم ينته عدد الأكثر إلى درجة قوية جدا بحيث يبعد اجتماعهم على الغلط أو يندر أو يمتنع عادة فإن نسبة الغلط إلى الواحد وإن كان أرجح من أولئك في الحفظ والإتقان أقرب (من نسبته) إلى الجمع الكثير.

ومما يقوي القول بالتعليل فيه بالوقف ما إذا كان قد زيد في الإسناد عوضا عن ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم – صحابي آخر كحديث ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قضى في أمهات الأولاد أن لا يبعن ولا يوهبن. .. الحديث.

هكذا رواه الدارقطني في السنن من رواية يونس بن محمد المؤدب ، عن عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر - رضي الله عنهما -.

وخالفه يحيى بن إسحاق السالحيني - فرواه عن عبد العزيز عن [ ص: 781 ] عبد الله بن دينار عن ابن عمر - رضي الله عنهما - [عن عمر ] من قوله فحكم الدارقطني وغيره من الأئمة أن الموقوف هو الصحيح، وعللوا المرفوع به، ووجهه غلبة الظن بغلط من رفعه حيث اشتبه عليه قول ابن عمر عن عمر - رضي الله عنهما - بأنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما جاء هنا بعد الصحابي صحابي آخر والحديث هو قوله اشتبه ذلك على الراوي، فإذا انضم إلى ذلك أن فليح بن سليمان رواه أيضا عن عبد الله بن دينار بموافقة يحيى بن إسحاق ، وكذلك رواه عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قوي القول بتعليله بالوقف (قوة) ظاهرة، ولا يقال قد رواه عبد الله بن جعفر المديني ، عن عبد الله بن دينار مرفوعا بمتابعة يونس بن محمد ; لأنها متابعة ضعيفة جدا لضعف عبد الله بن جعفر .

[ ص: 782 ] ومشى أبو الحسن بن القطان الفاسي في "بيان الوهم والإيهام" على ظاهر الإسناد الأول، فصحح الحديث، فلم يصب -فالله أعلم-.

ومما يقوي القول بتقديم الانقطاع على الاتصال أن يكون في الإسناد مدلس عنعنه.

ومن خفايا ذلك ما ذكره ابن أبي حاتم قال:

سألت أبي عن حديث رواه حماد بن سلمة عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من باع عبدا وله مال ..." الحديث.

فقال: كنت أستحسن هذا الحديث من ذي الطريق حتى رأيت من حديث بعض الثقات عن عكرمة بن خالد ، عن الزهري عن ابن عمر - رضي الله عنهما -.

قال العلائي : "فبهذه النكتة يتبين أن التعليل أمر خفي لا يقوم به إلا نقاد أئمة الحديث دون من لا اطلاع له على طرقه وخفاياها".

وأما النوع الرابع: وهو الاختلاف في السند - فلا يخلو إما أن يكون الرجلان ثقتين أم لا. فإن كانا ثقتين، فلا يضر الاختلاف عند الأكثر، لقيام الحجة بكل منهما، فكيفما دار الإسناد كان عن ثقة وربما احتمل أن يكون [ ص: 783 ] الراوي (سمعه منهما جميعا وقد وجد ذلك في كثير من الحديث، لكن ذلك يقوى حيث يكون الراوي) ممن له اعتناء بالطلب وتكثير الطرق.

ومن أمثلة ذلك حديث أبي هريرة في المهجر إلى الجمعة (رواه يونس ومعمر وابن أبي ذئب ، عن الزهري عن الأغر ).

ورواه ابن عيينة عن الزهري ، عن سعيد .

ورواه يزيد بن الهاد ، عن الزهري عن الأغر وأبي سلمة وسعيد كلهم عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه -.

فتبين صحة كل الأقوال، فإن الزهري كان ينشط تارة، فيذكر جميع شيوخه وتارة يقتصر على بعضهم.

[ ص: 784 ] ومنه حديث "أفطر الحاجم والمحجوم" .

رواه جماعة، عن أبي قلابة ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن شداد بن أوس .

ورواه آخرون، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء الرحبي ، عن ثوبان رضي الله تعالى عنه.

ورواه يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة بالطريقين جميعا.

قال الترمذي : سألت محمدا عنه فصححه.

فقلت: وكيف ما فيه من الاضطراب؟

قال: كلاهما عندي صحيح.

[ ص: 785 ] وأما ما ذهب إليه كثير من أهل الحديث - من أن الاختلاف دليل على عدم ضبطه في الجملة، فيضر ذلك ولو كانت رواته ثقات إلا أن يقوم دليل، على أنه عند الراوي المختلف عليه عنهما جميعا أو بالطريقين جميعا - فهو رأي فيه ضعف، لأنه كيفما دار كان على ثقة، وفي الصحيحين من (ذلك) جملة أحاديث، لكن لا بد في الحكم بصحة ذلك سلامته من أن يكون غلطا أو شاذا.

وأما إذا كان أحد (الراويين) المختلف فيهما ضعيفا لا يحتج به فههنا مجال للنظر وتكون تلك الطريق التي سمي ذلك الضعيف فيها (وجعل الحديث عنه كالوقف أو الإرسال بالنسبة إلى الطريق الأخرى) فكل ما ذكر هناك من الترجيحات يجيء هنا.

ويمكن أن يقال - في مثل هذا يحتمل أن يكون الراوي إذا كان مكثرا قد سمعه منهما أيضا كما تقدم.

فإن قيل: إذا كان الحديث عنده عن الثقة، فلم يرويه عن الضعيف ؟

فالجواب يحتمل أنه لم يطلع على ضعف شيخه أو طلع عليه ولكن ذكره اعتمادا على صحة الحديث عنده من الجهة الأخرى.

وأما النوع الخامس: وهو زيادة الرجل بين الرجلين في السند فسيأتي تفصيله في النوع السابع والثلاثين إن شاء الله تعالى فهو مكانه.

وأما النوع السادس: وهو الاختلاف في اسم الراوي ونسبه فهو على أقسام أربعة:

[ ص: 786 ] 1- الأول: أن يبهم في طريق ويسمي في أخرى، فالظاهر أن هذا لا تعارض فيه; لأنه يكون المبهم في إحدى الروايتين هو المعين في الأخرى، وعلى تقدير أن يكون غيره، فلا تضر رواية من سماه وعرفه - إذا كان ثقة - رواية من أبهمه.

2- القسم الثاني: أن يكون الاختلاف في العبارة فقط والمعنى بها في الكل واحد، فإن مثل هذا لا يعد اختلافا أيضا، ولا يضر إذا كان الراوي ثقة.

قلت: وبهذا يتبين أن تمثيل المصنف للمضطرب بحديث أبي عمرو بن حريث ليس بمستقيم. انتهى.

والقسم الثالث: أن يقع التصريح باسم الراوي ونسبه /لكن مع الاختلاف في سياق ذلك.

ومثال ذلك: حديث ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب - رضي الله عنه - في سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - هو والفضل بن العباس

[ ص: 787 ] - رضي الله عنهما - أن يؤمرهما على الصدقة، رواه مالك عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل .

ورواه ابن إسحاق عنه عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل ورواه يونس ، عن الزهري ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، فمثل هذا الاختلاف لا يضر، والمرجع فيه إلى كتب التواريخ وأسماء الرجال، فيحقق ذلك الراوي، ويكون الصواب فيه من أتى به على وجهه.

والصحيح هنا هو قول مالك قاله أبو داود وغيره.

ويمكن الجمع بين روايتي يونس ومالك بأن يونس نسبه إلى جده.

وأما رواية ابن إسحاق فوهم في تسميته محمدا .

4- القسم الرابع: أن يقع التصريح به من غير اختلاف لكن يكون ذلك من متفقين:

أحدهما ثقة والآخر ضعيف.

أو أحدهما مستلزم الاتصال والآخر الإرسال كما قدمنا ذلك في غير [ ص: 788 ] رواية (أبي) أسامة عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم حيث ظن أنه عبد الرحمن بن يزيد بن جابر .

ومن خفي ذلك ما حكاه ابن أبي حاتم في العلل أنه سأل أباه عن حديث رواه أحمد بن حنبل وفضل الأعرج عن هشام بن سعيد الطالقاني عن محمد بن مهاجر ، عن عقيل بن شبيب عن أبي وهب الجشمي ، وكانت له صحبة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سموا أولادكم أسماء الأنبياء، وأحسن الأسماء عبد الله وعبد الرحمن ، وأصدقها حارث وهمام ، وأقبحها حرب ومرة ، وارتبطوا الخيل وامسحوا على نواصيها وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار .

قال: فقال أبي: سمعته من فضل الأعرج وفاتني عن أحمد بن حنبل ، وأنكرته في نفسي، وكان يقع في نفسي أنه أبو وهب الكلاعي صاحب مكحول ، وكان أصحابنا يستعملون هذا الحديث، ولا يمكنني أن أقول فيه شيئا لكون أحمد رواه، فلما قدمت حمص حدثنا ابن الصفي عن أبي المغيرة حدثني محمد بن المهاجر حدثني عقيل بن سعيد عن أبي وهب الكلاعي قال: قال [ ص: 789 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو حاتم : وحدثني به هشام بن عمار عن يحيى بن حمزة عن أبي وهب عن سليمان بن موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: فعلمت أن ذلك باطل، وأبو وهب الكلاعي من طبقة الأوزاعي وهو دون التابعي، فبقيت متعجبا من أحمد كيف خفي عليه، فإني أنكرته حين سمعته قبل أن أقف على علته.

قال: وعقيل بن شبيب أو ابن سعيد مجهول لا أعرفه.

قلت: وقد رواه أبو داود في السنن مفرقا، عن هارون بن عبد الله والنسائي عن محمد بن رافع كلاهما عن هشام بن سعيد . كما رواه أحمد بن حنبل . زاد أبو داود فروى حديثا آخر بالإسناد المذكور متنه: "عليكم بكل كميت أغر محجل أو أشقر ..." الحديث.

ثم رواه عن محمد بن عوف عن أبي المغيرة عن محمد بن مهاجر حدثني عقيل بن شبيب أو ابن سعيد عن أبي وهب ، فذكر نحوه ولم ينسبه ولم يقل: وكانت له صحبة.

[ ص: 790 ] ووقع لابن القطان في هذا الحديث تعقب على ابن أبي حاتم في ترجمة أبي وهب رددناه على ابن القطان في مختصر التهذيب - والله الموفق -.

فهذه الأنواع الستة التي يقع بها التعليل وقد تبين كيفية التصرف فيها، وما عداها إن وجد لم يخف إلحاقه بها.

[ التعليل بالاختلاف في المتن :]

وأما الاختلاف الذي يقع في المتن، فقد أعل به المحدثون والفقهاء كثيرا من الأحاديث. كما تقدم لشيخنا ابن عبد البر في حديث البسملة، وكما تقدم في نوع المنكر في حديث ابن جريج في وضع الخاتم، وكما روي عن أحمد في رده حديث رافع بن خديج في النهي عن المخابرة للاضطراب.

[ ص: 791 ] [الحافظ يضع قاعدة ويضرب لها أمثلة:]

وأمثلة ذلك كثيرة، وللتحقيق في ذلك مجال طويل يستدعي تقسيما وبيان أمثلة ليصير ذلك قاعدة يرجع إليها، فنقول:

إذا اختلفت مخارج الحديث وتباعدت ألفاظه أو كان سياق الحديث في حكاية /واقعة /، يظهر تعددها، فالذي يتعين القول به أن يجعلا حديثين مستقلين.

مثال الأول: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة السهو يوم ذي اليدين ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سلم من ركعتين ثم قام - صلى الله عليه وسلم - إلى خشبة في المسجد فاتكأ عليها فأدركه ذو اليدين بسهوه فسأل - صلى الله عليه وسلم - الصحابة رضي الله عنهم فقالوا: نعم. فصلى - صلى الله عليه وسلم - الركعتين اللتين سها عنهما .

وحديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله [ ص: 792 ] عليه وسلم - صلى العصر فسلم من ثلاث ثم دخل - صلى الله عليه وسلم - منزله فجاء الخرباق ، وكان في يديه طول فناداه - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بصنيعه فخرج - صلى الله عليه وسلم - وهو غضبان فسأل الناس فأخبروه فأتم - صلى الله عليه وسلم – صلاته .

وحديث معاوية بن حديج - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم المغرب، فسلم من ركعتين، ثم انصرف، فأدركه طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - فأخبره بصنيعه - صلى الله عليه وسلم - فرجع - صلى الله عليه وسلم - فأتم الصلاة .

فإن هذه الأحاديث الثلاثة (ليس الواقعة واحدة) بل سياقها يشعر بتعددها، وقد غلط بعضهم، فجعل حديث أبي هريرة وعمران بن حصين رضي الله عنهما- بقصة واحدة، ورام الجمع بينهما على وجه من التعسف الذي يستنكر.

وسببه الاعتماد على قول من قال: إن ذا اليدين اسمه الخرباق وعلى تقدير ثبوت أنه هو، فلا مانع أن يقع ذلك له في واقعتين لاسيما وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - سلم من ركعتين، وفي حديث عمران أنه - صلى الله عليه وسلم - سلم من ثلاث إلى غير ذلك من الاختلاف المشعر بكونهما واقعتين.

[ ص: 793 ] وكذا حديث معاوية بن حديج ظاهر في أنه قصة ثالثة; لأنه ذكر أن ذلك في المغرب، وأن المنبه على السهو طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه -.

(ومثال الثاني /: حديث علي بن رباح ) قال:

سمعت فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - يقول: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب وهي من المغانم تباع فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذهب الذي في القلادة، فنزع وحده، ثم قال - صلى الله عليه وسلم - لهم: "الذهب بالذهب وزنا بوزن" .

وحديث حنش الصنعاني عن فضالة - رضي الله عنه - قال:

أ – "اشتريت يوم خيبر قلادة فيها ذهب باثني عشر دينارا فيها أكثر من اثني عشر دينارا، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تباع حتى تفصل" .

[ ص: 794 ] ب - وفي لفظ له "كنا نبايع يوم خيبر اليهود الوقية الذهب بالدينارين والثلاثة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبيعوا الذهب إلا وزنا بوزن" .

ج - وفي رواية له: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو سبعة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا حتى يميز بينه وبينها ..." الحديث.

د - وفي رواية لحنش قال: كنا مع فضالة في غزوة فطارت لي ولأصحابي قلادة بها ذهب وجوهر فأردت أن أشتريها فقال لي فضالة - رضي الله عنه -: انزع ذهبها فاجعله في كفة واجعل ذهبك في كفة; فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذن إلا مثلا بمثل" .

وهذه الروايات كلها في صحيح مسلم .

فقال البيهقي وغيره: هذه الروايات محمولة على أنها كانت بيوعا شهدها فضالة - رضي الله عنه - فأداها كلها وحنش أداها متفرقة.

قلت: بل هما حديثان لا أكثر رواهما جميعا حنش بألفاظ مختلفة وروى عن علي بن رباح أحدهما.

[ ص: 795 ] وبيان ذلك أن حديث علي بن رباح شبيه برواية حنش الثالثة، وليست بينهما مخالفة إلا في تعيين وزنها في رواية حنش دون رواية الآخر، فهذا حديث واحد اتفقا فيه على ذكر القلادة، وأنها مشتملة على ذهب وخرز.

وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع من بيعها /حتى يميز بين الذهب وغيره.

فأما رواية حنش الأولى، فليس فيها إلا ذكر المفاضلة في كون (القلادة) كان فيها أكثر من اثني عشر والثمن كان اثني عشر (فنهاهم عن ذلك).

وروايته الثانية شبيهة بذلك إلا أنها عامة في النهي عن بيع الذهب متفاضلا ، وتلك فيها بيان القصة فقط.

والأخيرة شبيهة بالثانية، والقصة التي وقعت فيها، إنما هي للتابعي لا للصحابي، فوضح أنهما حديثان لا أكثر - والله أعلم -.

ثم إن هذا كله لا ينافي المقصود من الحديث، فإن الروايات كلها متفقة على المنع من بيع الذهب بالذهب ومعه شيء [آخر] غيره، فلو لم يمكن الجمع لما ضر الاختلاف. - والله أعلم -.

فهذان المثالان واضحان فيما يمكن تعدد الواقعة وفيما يبعد.

فأما إذا بعد الجمع بين الروايات بأن يكون المخرج واحدا فلا ينبغي سلوك تلك الطريق المتعسفة.

[ ص: 796 ] مثاله: حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أيضا في قصة ذي اليدين فإن في بعض طرقه أن ذلك كان في صلاة الظهر، وفي أخرى في صلاة العصر وفي أكثر الروايات قال: "إحدى صلاتي العشي إما الظهر أو العصر" .

فمن زعم أن رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - لقصة ذي اليدين كانت متعددة، وقعت مرة في الظهر ومرة في العصر من أجل هذا الاختلاف ارتكب طريقا وعرا، بل هي قصة واحدة.

وأدل دليل على ذلك الرواية التي فيها التردد هل هي الظهر أو العصر فإنها مشعرة بأن الراوي كان يشك في أيهما.

ففي بعض الأحيان كان يغلب على ظنه أحدهما فيجزم به.

وكذا وقع في بعض طرقه يذكر /أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للناس: ما يقول ذو اليدين ؟ قالوا: صدق .

وفي أخرى: أكما يقول ذو اليدين ؟ قالوا: نعم .

[ ص: 797 ] وفي أخرى: فأومئوا أن نعم .

فالغالب أن هذا الاختلاف من الرواة في التعبير عن صورة الجواب ولا يلزم من ذلك تعدد الواقعة.

قال العلائي : "وهذه الطريقة يسلكها الشيخ محيي الدين توصلا إلى تصحيح كل من الروايات صونا للرواة الثقاة أن يتوجه الغلط إلى بعضهم حتى أنه قال في حديث ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما -: إن عمر - رضي الله عنه - كان نذر اعتكاف ليلة في الجاهلية، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فأمره - صلى الله عليه وسلم - أن يفي بنذره ، وفي رواية: اعتكاف يوم. وكلاهما في الصحيح.

فقال الشيخ محيي الدين : هما واقعتان كان على عمر نذران، ليلة بمفرها ويوما بمفرده فسأل عن هذا مرة وعن الآخر أخرى.

وفي هذا الحمل نظر لا يخفى; لأنه من البعيد أن لا يفهم عمر - رضي [ ص: 798 ] الله عنه - من الإذن بالوفاء بنذر اليوم الوفاء بنذر الآخر حتى يسأل عنه مرة أخرى، لاسيما والواقعة في أيام يسيرة يبعد النسيان فيها جدا; لأن في كل من الروايات أن ذلك كان في أيام تفرقة السبي عقب وقعة حنين ، ففي هذا الحمل من أجل تحسين الظن بالرواة يطرق الخلل إلى عمر - رضي الله عنه -. إما بالنسيان في المدة اليسيرة أو بأن يخفى عليه إلحاق اليوم بالليلة في حكم الوفاء بنذره في الاعتكاف.

وهو من الأمر البين الذي لا يخفى على من هو دونه فضلا عنه; لأن سبب سؤاله إنما هو عن كون نذره صدر في الجاهلية فسأل هل يفي في الإسلام بما نذر في الجاهلية، فحيث حصل له الجواب عن ذلك كان عاما في كل نذر شرعي.

[التحقيق في الجمع بين الروايتين:]

ولكن التحقيق في الجمع بين هاتين الروايتين أن عمر - رضي الله تعالى عنه - كان عليه نذر اعتكاف يوم بليلته سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه فأمره بالوفاء به، فعبر بعض الرواة عنه بيوم وأراد بليلته، وعبر بعضهم بليلة وأراد بيومها.

[ ص: 799 ] والتعبير بكل واحد من هذين على المجموع من المجاز الشائع الكثير الاستعمال، فالحمل عليه أولى من جعل القصة متعددة.

وأغرب من ذلك وأعجب ما ذكره الشيخ محيي الدين أيضا في حديث: بني الإسلام على خمس; لأنه جاء في الصحيح من رواية ابن عمر - رضي الله عنهما - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن \ محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت". فقال رجل: وحج البيت وصوم رمضان، فقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: لا، وصوم رمضان وحج البيت. هكذا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

ثم جاء الحديث في الصحيح أيضا من طريق أخرى عن ابن عمر - رضي الله عنهما - ولفظه: "وحج البيت وصوم رمضان" .

فقال الشيخ محيي الدين : "هذا محمول على أن ابن عمر - رضي الله عنهما - سمع الحديث من النبي - صلى الله عليه وسلم - على الوجهين".

ولا شك في أن مثل هذا هنا بعيد جدا.

فإنه لو سمعه على الوجهين لم ينكر على من قال أحدهما إلا أن يكون حينئذ ناسيا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله على الوجه الذي أنكره.

والظاهر القوي أن أحد رواة هذه الطريق التي قدم فيها الحج على الصيام رواه بالمعنى فقدم وأخر، ولم يبلغه نهي ابن عمر - رضي الله عنهما - عن ذلك محافظة على كيفية ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -.

[ ص: 800 ] فهذا الحمل وهو رواية بعض الرواة لهذه الطريق على المعنى أولى من تطرق النسيان إلى ابن عمر - رضي الله عنهما - أو الإنكار والرد للفظ الذي سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - /.

ومما يبعد فيه احتمال تعدد الواقعة ويمكن الجمع فيه بين الروايات ولو اختلفت المخارج ما يكون الحمل فيه على طريق من المجاز كما في حديث عمر - رضي الله عنه - المتقدم. أو بتقييد في الإطلاق كما في حديث يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه في النهي عن مس الذكر باليمين فإن بعض الرواة عن يحيى أطلق وبعضهم قيده بحالة البول.

أو بتخصيص العام كما في حديث مالك عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - في زكاة الفطر وقوله فيه "من المسلمين".

[ ص: 801 ] وقد تقدم الكلام عليه.

أو بتفسير المبهم وتبيين المجمل كما في حديث وائل بن حجر - رضي الله عنه - في قصة صاحب التسعة، فإن في رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - عند الترمذي إبهام كيفية القتل، وفي حديث وائل عند مسلم بيانها.

وكحديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة كفارة الوقاع في رمضان، فإن مالكا وطائفة رووه عنه

[ ص: 802 ] بلفظ: أن رجلا أفطر في رمضان، ولم يبينوا ما أفطر به، ورواه جمهور أصحاب الزهري فبينوا أن الفطر كان بالجماع.

وأما ما يبعد فيه احتمال التعدد ويبعد - أيضا - فيه الجمع بين الروايات، فهو على قسمين:

أحدهما: ما لا يتضمن المخالفة بين الروايات اختلاف حكم شرعي فلا يقدح ذلك في الحديث، وتحمل تلك المخالفات على خلل وقع لبعض الرواة إذ رووه بالمعنى متصرفين بما يخرجه عن أصله.

مثاله: حديث جابر - رضي الله عنه - في وفاء دين أبيه، فإنه مخرج في الصحيح من عدة طرق، وفي سياقه تباين لا يتأتى الجمع فيه إلا بتكلف شديد، لأن جميع الروايات عبارة عن دين كان على أبيه ليهود فأوفاهم من نخله ذلك العام.

ففي رواية وهب بن كيسان أنه كان ثلاثين وسقا وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كلمه في الصبر فأبى، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 803 ] النخل فمشى فيها ثم قال لجابر - رضي الله عنه - جدله فجدله بعد ما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم -.

وفي حديث عبد الله بن كعب عن جابر - رضي الله عنه – "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سألهم أن يقبلوا ثمر الحائط ويحللوه، فأبوا ...."

وفي رواية الشعبي ، عن جابر - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: اذهب فبيدر كل ثمر على ناحية، وأنه - صلى الله عليه وسلم - طاف في أعظمها بيدرا، ثم جلس - صلى الله عليه وسلم - فقال: ادع أصحابك فما زال يكيل لهم حتى أدى الله تعالى أمانة والدي، وفي آخره، فسلم الله البيادر كلها .

ففي حمل هذه الروايات اختلاف شديد، كما ترى، وفي حملها على [ ص: 804 ] التعدد بعد وتكلف، والأقرب حملها على ما أشرنا إليه أن المقصود من جميعها البركة في التمر بسبب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن الاختلاف وقع من بعض الرواة.

وكذا حديث جابر - رضي الله عنه - في قصة الجمل، فإن الروايات اختلفت في قدر الثمن وفي الاشتراط وعدمه وقد ذكر البخاري ذلك مبينا في موضعين من صحيحه وقال: "إن قول الشعبي بوقية أرجح وأن الاشتراط أصح".

[ ص: 805 ] وهو ذهاب منه إلى ترجيح بعض الروايات على بعض وأما دعوى التعدد فيها فغير ممكن.

ومن ذلك حديث عائشة - رضي الله عنها - في ضياع العقد ونزول آية التيمم.

ففي رواية القاسم أن المكان كان بيداء أو ذات الجيش وفيها انقطع عقد لي، وفيها أنهم باتوا على غير ماء، وفيها فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فوجدنا العقد تحته .

وفي رواية / عروة "أنها سقطت في الأبواء ".

وفي رواية عنه في مكان يقال له الصلصل ، وفيه "أن القلادة استعارتها عائشة من أسماء - رضي الله عنها –" وفيها: "انسلت القلادة من عنقها" .

وفيها "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل رجلين يلتمسانها فوجداها وحضرت الصلاة، فلم يدريا كيف يصنعان" .

[ ص: 806 ] وفي رواية "أرسل - صلى الله عليه وسلم – ناسا" وعين في رواية منهم أسيد بن حضير .

وفيها "أن الذين أرسلوا حضرتهم الصلاة، فصلوا على غير وضوء".

قال ابن عبد البر :

"ليس اختلاف النقلة في العقد، ولا في القلادة ولا في الموضع الذي سقط ذلك فيه لعائشة - رضي الله عنها - ولا في كونها لعائشة رضي الله عنها أو لأسماء - رضي الله عنها - ما يقدح في الحديث، ولا يوهنه لأن المعنى المراد من الحديث والمقصود هو نزول آية التيمم ولم يختلفوا في ذلك".

قلت: كلامه يشعر بتعذر الجمع بين الروايتين، وليس كذلك بل الجمع بينهما ممكن بالتعبير عن القلادة بالعقد.

وبأن إضافتها إلى أسماء رضي الله عنها- إضافة ملك وإلى عائشة إضافة يد، وبأن انسلالها كان بسبب انقطاعها، وبأن الإرسال في طلبها كان في ابتداء الحال، ووجدانها كان في آخره بعد أن بعثوا البعير.

وأما قوله: إن الذين ذهبوا في طلبها هم الذين وجدوها فلا بعد فيه أيضا لاحتمال أن يكون وجدانهم إياها بعد رجوعهم.

وإذا تقرر ذلك كانت القضية واحدة وليس فيها مخالفة إلا أن في رواية عروة زيادة على ما في رواية القاسم من ذكر صلاة المبعوثين في طلبها بغير وضوء، ولا اختلاف ولا تعارض.

ومن الأحاديث التي رواها بعض الرواة بالمعنى الذي وقع له وحصل من ذلك الغلط لبعض الفقهاء بسببه، ما رواه العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:

[ ص: 807 ] "كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج"
... الحديث.

ورواه عنه سفيان بن عيينة وإسماعيل بن جعفر وروح بن القاسم وعبد العزيز الدراوردي ، وطائفة من أصحابه.

وهكذا رواه عنه شعبة في رواية حفاظ أصحابه وجمهورهم. وانفرد وهب بن جرير عن شعبة بلفظ: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب" . حتى زعم بعضهم أن هذه الرواية مفسرة للخداج الذي في الحديث، وأنه عدم الإجزاء".

وهذا لا يتأتى له إلا لو كان مخرج الحديث مختلفا.

[ ص: 808 ] فأما والسند واحد متحد، فلا ريب في أنه حديث واحد اختلف لفظه، فتكون رواية وهب بن جرير شاذة بالنسبة إلى ألفاظ بقية الرواة، لاتفاقهم دونه على اللفظ الأول; لأنه يبعد كل البعد أن يكون أبو هريرة - رضي الله عنه - سمعه باللفظين ثم نقل عنه ذلك فلم يذكره العلاء لأحد من رواته على كثرتهم إلا لشعبة ، ثم لم يذكره شعبة لأحد من رواته على كثرتهم إلا لوهب بن جرير .

ومن ذلك حديث الواهبة نفسها، فإن مداره على أبي حازم عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -.

واختلف الرواة عن أبي حازم ، فقال مالك وجماعة معه:

"فقد زوجتكها" .

[ ص: 809 ] وقال ابن عيينة : "أنكحتكها" وقال ابن أبي حازم ويعقوب بن عبد الرحمن : "ملكتكها".

وقال الثوري : "أملكتكها".

وقال أبو غسان : "أمكناكها".

وأكثر هذه الروايات في الصحيحين فمن البعيد جدا أن يكون سهل بن سعد - رضي الله عنه - شهد هذه القصة من أولها إلى آخرها مرارا عديدة، فسمع في كل مرة لفظا غير الذي سمعه في الأخرى.

بل ربما يعلم ذلك بطريق القطع - أيضا - فالمقطوع به أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل هذه الألفاظ كلها في مرة واحدة تلك [ ص: 810 ] الساعة، فلم يبق إلا أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لفظا منها، وعبر عنه بقية الرواة بالمعنى، والله أعلم.

ثم إن الاختلاف في الإسناد إذا كان بين ثقات متساوين، وتعذر الترجيح ، فهو في الحقيقة لا يضر في قبول الحديث والحكم بصحته، لأنه عن ثقة في الجملة.

ولكن يضر; وذلك في الأصحية عند التعارض - مثلا -.

فحديث لم يختلف فيه على رواية - أصلا - أصح من حديث اختلف فيه في الجملة، وإن كان ذلك الاختلاف في نفسه يرجع إلى أمر لا يستلزم القدح، - والله أعلم -.

التالي السابق


الخدمات العلمية