الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          معاني السورة الكريمة

                                                          قال الله تعالى:

                                                          سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا

                                                          جهدت نفس النبي صلى الله عليه وسلم ولم ييأس من رحمة الله عندما ماتت زوجه المواسية الحانية التي كان يسكن إليها بعد لغوب الحياة ومعاندة المشركين وإيذائهم له وللمؤمنين، فهي التي واسته عندما نزل الوحي، وذهب إليها يرجف فؤاده، فقالت له: إنك تكرم الضيف وتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر، ولن يضيعك الله أبدا، وذهبت برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمها الذي كان على علم بالكتاب فقال له: إن هذا هو الناموس الذي نزل على موسى من قبل، ليتني أكون فيها جذعا إذ [ ص: 4317 ] يخرجك قومك، فقال صلى الله عليه وسلم -: «أومخرجي هم؟» فقال: ما أتي قوم بمثل ما أوتيت إلا أخرجوه.

                                                          وفي سنة وفاتها توفي الحامي الحاني أبو طالب الذي كان درئة من قريش، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك العام عام الحزن.

                                                          وذهب إلى الطائف يعلن الدعوة في ثقيف عسى أن يكون منهم النصراء المستجيبون، ولكنهم ردوه ردا قبيحا، وأحس أنه فقد المعين، فقال داعيا ربه: «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي إلا أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك أو يحل علي غضبك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك».

                                                          استجاب الله تعالى لنبيه الكريم فأعطاه القوة بالبراهين الحسية التي لا يماري فيها إلا المثبورون، فشق له القمر ورآه السارون، فماروا وقالوا سحر مستمر مع أنه رئي رأي العين، وأعطاه الله قوة الحيلة فتحايل للدخول إلى مكة فى جوار بعض القرشيين، فدخلها بين أولاد من نزل في جواره، وقد خرجوا ليناصروه، وإذا كان فقد العم البار الحاني، والزوجة المؤنسة المواسية الحانية فإن الله تعالى أشعره بأن الله معه ومؤنسه، وكان ذلك بالإسراء والمعراج، فآنسه الله تعالى في وحشته.

                                                          [ ص: 4318 ] قال تعالى: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام سبحان اسم في معنى المصدر، وهو غير متصرف فلا تجري عليه وجوه الإعراب وليس له فعل، وقد يعده بعض العلماء مصدرا من سبح يسبح تسبيحا وسبحانا، ومعنى هذه اللغة تنزيه الله تعالى وتقديسه وبراءته من كل نقص لا يليق بالذات العلية المكرمة، وقد روي أن طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معنى (سبحان الله)؟ فقال: «تنزيه الله من كل سوء»، وصدرت الآية أو السورة بالتسبيح وتنزيه الله تعالى عن كل عيب؛ لأنه سيكون فيها إسراء ومعراج، واتجاه إلى الله واستشراف بالملأ الأعلى فكان لا بد من الابتداء بما يدل على التنزيه عن التجسيم والأغراض التي لا تليق بذاته الكريمة، و (سبحان) منصوبة على أنها مفعول مطلق؛ لأنه في معنى المصدر أو مصدر كما ذكر.

                                                          و(أسرى): أي سار ليلا، فالإسراء لا يكون إلا بالليل، وذكر (ليلا) للتبعيض، فكان التنكير للدلالة على البعضية، فالإسراء كان في بعض الليل لا في الليل كله، فما استغرق الليل كله، بل كان في بعض، وكان ذكر (ليلا) للإشارة إلى أنه حين يكون السير ليس سهلا، إذ إن الانتقال إلى مكان بعيد لا يكون ليلا، بل يكون نهارا، ولا يكون بعض الليل بل يكون بعض النهار، فذكر (ليلا) للدلالة على موضع الغرابة، أنه كان بأقصى السرعة، وكان ليلا.

                                                          وذكر (عبده) في قوله تعالى : أسرى بعبده للإشارة إلى قربه من نبيه، فقد خلص له، ولم يكن بينه وبينه حجاب إلا العبودية، وأضافه إليه سبحانه لمعنى الاختصاص وأنه صار خالصا لله -سبحانه وتعالى وفي ذلك إشارة إلى معنى دعائه صلى الله عليه وسلم -: «إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي» فقال له ربه: أنت عبدي، أي أنت لي خالصا.

                                                          وقد عين ابتداء السير، وانتهاءه فقال – سبحانه : من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ؛ فالابتداء من المسجد الحرام لا من مكة كلها، وصحت الرواية [ ص: 4319 ] عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أسري به من الحجر في المسجد، وقيل: إنه أسري به من بيت أم هانئ بنت أبي طالب، ونحن نرى أن الأولى أن يكون ابتداء الإسراء من الحجر، لصحة الرواية ولأنها التي تتفق مع النص، لأن النص ذكر أنه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ومكة وإن كانت حرما آمنا لأجل المسجد الحرام فليست كلها الكعبة ولا المسجد الحرام.

                                                          والمسجد الأقصى هو بيت المقدس، قيل: إن الذي بناه يعقوب بن إسحاق عليهما السلام، ومهما يكن تاريخ بنائه فهو مسجد مقدس كما قال صلى الله عليه وسلم -: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: البيت الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي هذا» .

                                                          وهو إحدى القبلتين أولهما اتجه إليه النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، فقد كان في صلاته يصلي متجها إليه غير مستدبر الكعبة، ولما هاجر استمر يتجه إلى بيت المقدس وحده نحو ستة عشر شهرا.

                                                          وكان الإسراء قبل الهجرة بعام، وبعد موت أم المؤمنين خديجة، وعمه أبي طالب، وقد ذكرت في أول القول ما كان للإسراء من أثر نفسي في التسرية عن النبي صلى الله عليه وسلم -.

                                                          وقد ذكر الله تعالى بعد المسجد الأقصى وصفا كريما له فقال: باركنا حوله ففيه آثار النبيين من أولاد إسحاق عليه السلام وفيه كانت الإمامة الكبرى بأرواحهم، وقد قال الزمخشري في قوله تعالى باركنا حوله يريد سبحانه بركات الدين والدنيا؛ لأنه متعبد الأنبياء من وقت موسى، ومهبط الوحي، وهو محفوف بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة، وكانت بركته أيضا في أنه إلى هذا الوقت كان قبلة المسلمين.

                                                          [ ص: 4320 ] وقوله تعالى: لنريه من آياتنا أي يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من آيات ربه الكبرى، ومن إمامته لأرواح الأنبياء أو للأنبياء أنفسهم قد أحضرهم الله تعالى له بأجسادهم، كما يبعثهم يوم البعث بأجسادهم، وتلك آيات من آيات الله – تعالى وعرج به إلى السماوات العلا، كما قال تعالى في سورة النجم: والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نـزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى

                                                          هذه آيات المعراج لا نتعجل الكلام في ذكر معانيها، فنؤجل ذلك إلى الكلام في معاني هذه السورة التي تصور الرحلة النبوية إلى السماوات العلا سواء أكانت هذه الرحلة بالروح فقط أم بالروح والجسد، والله على كل شيء قدير. بقي أن نتكلم في الإسراء والمعراج أكان بالروح أم بالجسد والروح؟

                                                          اتفق علماء السلف على أن الإسراء كان بالروح والجسد، وأنه كان ليلا، والنبي صلى الله عليه وسلم مستيقظ يرى ويسمع، ولذا وصف عير قريش وذكر أنه يتقدمها جمل أورق.

                                                          ولم يخالف في ذلك إلا ما روي عن عائشة وعن معاوية من الذين لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم -، ونقول: إن عائشة رضي الله عنها ما كانت زفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كانت في سن تسمح لها بالرواية، إلا أن تكون قد روت ذلك عن غيرها، ولم تذكر من روت عنه، ومهما يكن فهي الصديقة بنت الصديق، ولكنا لا نأخذ برأيها وقد كان رأيا لنا أن نخالفه، وأما معاوية فما له ولهذا وقد كان هو وأبوه ممن كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم في أصل الإسراء، فلم يكن وقت الإسراء إلا مشركا ككل المشركين.

                                                          [ ص: 4321 ] ونحن نرى أن الإسراء كان بالجسد في حال يقظة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن في منام:

                                                          أولا: لأن الله تعالى قال: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا والعبد جسد وروح.

                                                          وثانيا: أنه وصف لهم ما رأى وعاين.

                                                          وثالثا: أنهم ما كانوا يختلفون عليه لو كانت الرؤيا منامية.

                                                          وأما المعراج، فإن بعض العلماء قال: إنه بالروح دون الجسد، وقد قال في ذلك القرطبي: قالت طائفة كان الإسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس وإلى السماء بالروح، واحتجوا بقوله تعالى: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء»، وإننا نميل إلى هذا الرأي، والله أعلم.

                                                          وختم الله سبحانه وتعالى آية الإسراء بقوله تعالى: إنه هو السميع البصير الضمير يعود إلى الله تعالى، وذكر السميع البصير في هذا المقام للإشارة إلى أن الله تعالى عليم علم من يسمع بما قيل لك من مشركي قريش وأهل الطائف، والعليم علم من يبصر بما رد به سفهاء ثقيف وما أوذيت به من أذى رق له قلب بعض المشركين، وهو تعالى مؤنسك في وحشتك وناصرك في وحدتك، فإذا فقدت النصير من أهل الدنيا والمواسي منهم فالله معك، وهو أعز نصير وأرحم بك.

                                                          تنبيهان:

                                                          أولهما: أن المشركين عندما كانوا يطلبون آيات حسية كانوا يريدون الإعنات لا الإقناع، فهذه الآية الحسية قد جاءتهم فزادوا خسرانا، جاءتهم في الإسراء وشق القمر، فزادوا كفرا فقالوا: سحر مستمر.

                                                          [ ص: 4322 ] ثانيهما: أن بعض الناس يذكرون الإسراء مع ما يقال الآن في الخروج إلى الفضاء والارتفاع إلى السماء وهذا تهجم على المعجزات، إن الارتفاع إلى الفضاء أو القمر أو المريخ بأسباب حسية مادية هي رافعة كروافع لأحمال لا فرق بين صغيرها وكبيرها، أما معجزة الإسراء فهي انتقال من مكان إلى مكان في وقت كان الانتقال يستغرق أربعين يوما من غير سبب ظاهر، أو دفعة حسية بل بسبب آخر وهو قدرة الله تعالى ولا شيء سوى قدرته ولا يوجد مثل هذا الآن ولا في أي زمان إلا أن يكون معجزة، فلا يستطيع ذلك أحد إلا الله العلي القدير الحكيم العليم.

                                                          [ ص: 4323 ] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . [ ص: 4324 ] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . [ ص: 4325 ] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . [ ص: 4326 ] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . [ ص: 4327 ] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . [ ص: 4328 ] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . [ ص: 4329 ] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . [ ص: 4330 ] بعد أن ذكر بيت المقدس ذكر موسى الذي أراد أن يدخل الأرض المقدسة فقعد بنو إسرائيل، وقالوا مقالة الجبن والنذالة: قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية