الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      ثم قال:


      ليبلغوا الدعوة للعباد ويوضحوا مهايع الإرشاد

      ذكر في هذا البيت حكمة إرسال الله عز وجل للرسل عليهم الصلاة والسلام فقال: ليبلغوا بضم الياء وكسر اللام من أبلغ الرباعي؛ أي: ليوصلوا الدعوة؛ أي: الرسالة للعباد، ولا معارضة بين هذا وبين ما تضمنه قوله تعالى: رسلا مبشرين ومنذرين الآية.

      من [ ص: 8 ] أن حكمة الإرسال قطع الحجة; لأن تبليغ الدعوة يستلزم قطع الحجة.

      وقوله: ويوضحوا بضم الياء وكسر الضاد من أوضح الرباعي معطوف على يبلغوا، ومعناه يبينوا، ومهايع الإرشاد بكسر الياء طرقه، والإرشاد مصدر أرشد بمعنى هدى، وفي بعض النسخ: مناهج بدل مهايع، وهي كالمهايع وزنا ومعنى.


      وختم الدعوة والنبوءه     بخير مرسل إلى البريئه


      محمد ذي الشرف الأثيل     صلى عليه الله من رسول


      وآله وصحبه الأعلام     ما انصدع الفجر عن الإظلام

      فاعل ختم ضمير مستتر عائد على الله تعالى، ما ختم معطوف بالواو على مرسل من قوله: ومرسل الرسل، وهو من عطف الفعل على الاسم الشبيه بالفعل، أي: مرسل الرسل، وخاتم الدعوة والنبوءة، وختم مشتق من الختم، والختم يطلق بمعنى الإتمام والفراغ، تقول: ختمت القرآن، أي: أتممته وفرغت منه، ويطلق بمعنى الطبع، تقول: ختمت الكتاب بمعنى طبعته، أي: جعلت عليه الطابع لئلا يفتح ويطلع على ما فيه، ويصح إرادة كلا المعنيين هنا; لأنه تعالى أتم الرسالة والنبوءة بسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وطبع عليهما به فلا يفتح بابهما لأحد بعده، ويشهد لهذا قوله تعالى: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم .

      وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الرسالة والنبوءة قد انقطعت فلا رسول من بعدي ولا نبي" الحديث، رواه الترمذي عن أنس بن مالك.

      وانعقد الإجماع على ذلك، وأل في قوله: الدعوة للعهد، والمعهود الدعوة المتقدمة، والنبوءة بالهمز من النبأ، وهو الخبر، ويترك الهمز مع تشديد الواو، أما من النبأ أيضا فأبدلت همزتها واوا، وأدغمت الواو في الواو، أو من النبوة بفتح النون؛ وهي الرفعة، والنبوءة: شرعا خصيصية من الله تعالى غير مكتسبة بإجماع المسلمين، هي اختصاص العبد بسماع وحي من الله تعالى بحكم شرعي تكليفي سواء أمر بتبليغه أم لا، وهكذا الرسالة لكن بشرط أن يؤمر بالتبليغ على ما يفهم من تعريفي الرسول والنبي المتقدمين.

      وقوله: بخير متعلق بختم، والمرسل المبعوث، [ ص: 9 ] والبريئة بالهمز من برأ الله الخلق أوجدهم؛ فهي فعيلة بمعنى مفعولة، وبترك الهمز مع تشديد الياء، أما من برأ أيضا فأبدلت الهمزة ياء، وأدغمت الياء في الياء، أو من بريت القلم إذا سويته على صورة لم يكن عليها قبل.

      وقوله: محمد بدل من خير، وهو علم منقول من اسم مفعول حمد المضعف العين؛ أي: المكرر العين؛ فيفيد المبالغة في المحمودية، وهو أشرف أسمائه -صلى الله عليه وسلم- والذي سماه به جده عبد المطلب على الصحيح بإلهام من الله تعالى رجاء أن يحمد في السماء والأرض، وقد حقق الله رجاءه.

      وقوله: ذي الشرف؛ صفة لمحمد، والشرف الرفعة، والأثيل بالثاء المثلثة صفة للشرف، ومعناه الأصيل الثابت.

      وقوله: صلى الله عليه لفظه لفظ الخبر، ومعناه الدعاء، أي: صل يا رب عليه. ومعنى صلاته تعالى عليه -صلى الله عليه وسلم- رحمته المقرونة بالتعظيم، ومن في قوله: من رسول بيانية، والمبين الضمير في قوله عليه، ومجرورها تمييز له في الأصل.

      وقوله: وآله معطوف على ضمير عليه، ولم يعد الجار في المعطوف بناء على مذهب الكوفيين المجوزين لذلك، وأصل آل: أول كالجمل لتصغيره على أويل، وقيل: أهل لتصغيره على أهيل، والمراد به هنا كل مؤمن ولو عاصيا; لأن المقام مقام دعاء، والعاصي أشد احتياجا إلى الدعاء من غيره، والصحب اسم جمع على الصحيح لصاحب، وهو لغة: من طالت عشرتك به، والمراد به هنا الصحابي، وهو من اجتمع بنبينا صلى الله عليه وسلم، مؤمنا به بعد البعثة في محل التعارف، بأن يكون على وجه الأرض، وإن لم يره أو لم يرو عنه شيئا، أو لم يميز على الصحيح، وخص الصحب بالذكر مع دخولهم في الآل بالمعنى المذكور لمزيد الاهتمام بهم.

      وقوله: الأعلام صفة للصحب، وهو جمع علم، معناه لغة: الجيل استعار الأعلام هنا للصحب لشبههم بها في الشهرة، وما من قوله: "ما انصدع" مصدرية ظرفية، ومعنى انصدع: انشق، والفجر ضوء الصباح، والإظلام: مصدر أظلم الليل؛ ذهب نوره، والمراد به هنا الظلام، أي: اللهم صل على محمد وآله وصحبه مدة انشقاق الفجر عن الظلام، وهذا المعنى مستمر البقاء إلى انقضاء الدنيا. وفي عبارة الناظم قلب; لأن الظلام هو [ ص: 10 ] الذي ينشق عن الفجر لا العكس، والقلب من أنواع البديع، ويتعين قراءة النبوءة والبريئة في النظم بالهمز; لأن تشديد الواو والياء من غير همز يؤدي إلى اختلاف القافية بالواو والياء، وإن كان يجوز في النبوة والبرية في حد ذاتها الهمز وتركه كما قدمناه.

      التالي السابق


      الخدمات العلمية