الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        وهذا القسم يجب إقامته على الشريف ، والوضيع ، والضعيف ، ولا يحل تعطيله لا بشفاعة ، ولا بهدية ولا بغيرهما ، ولا تحل الشفاعة فيه ، ومن عطله لذلك - وهو قادر على إقامته - فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، ولا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ، وهو ممن اشترى بآيات الله ثمنا قليلا .

        روى أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من حالت شفاعته دون حد من حدود الله ، فقد ضاد الله في أمره ، ومن خاصم في باطل وهو يعلم ، لم يزل في سخط الله حتى ينزع ومن قال في مسلم دين ما ليس فيه ، حبس في ردغة الخبال ، حتى يخرج مما قال قيل يا رسول الله : وما ردغة الخبال ؟ قال عصارة أهل النار } فذكر النبي صلى الله عليه وسلم الحكام والشهداء والخصماء ، وهؤلاء أركان الحكم . [ ص: 89 ]

        وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها : { إن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت ، فقالوا : من يكلم فيها رسول الله ؟ فقالوا : ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد قال : يا أسامة : أتشفع في حد من حدود الله ؟ إنما هلك بنو إسرائيل أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت ، لقطعت يدها } ففي هذه القصة عبرة ، فإن أشرف بيت كان في قريش بطنان : بنو مخزوم وبنو عبد مناف فلما وجب على هذه القطع بسرقتها التي هي جحود العارية ، على قول العلماء أو سرقة أخرى - غير هذه - على قول آخرين ، وكانت ( من ) أكبر القبائل ، وأشرف البيوت ، وشفع فيها حب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة ، غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكر عليه دخوله فيما حرمه الله ، وهو [ ص: 90 ] الشفاعة في الحدود ثم ضرب المثل بسيدة نساء العالمين ، وقد برأها الله من ذلك - فقال : { لو أن فاطمة بنت محمد سرقت ، لقطعت يدها }

        وقد روي : أن هذه المرأة التي قطعت يدها تابت ، وكانت تدخل بعد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فيقضي حاجتها .

        فقد روي : { أن السارق إذا تاب سبقته يده إلى الجنة ، وإن لم يتب سبقته يده إلى النار } .

        وروى مالك في الموطإ . أن جماعة أمسكوا لصا ليرفعوه إلى عثمان رضي الله عنه ، فتلقاهم الزبير فشفع فيه فقالوا : إذا رفع إلى عثمان فاشفع [ ص: 91 ] فيه عنده ، فقال : إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع " يعني الذي يقبل الشفاعة .

        { وكان صفوان بن أمية نائما على رداء له في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء لص فسرقه ، فأخذه فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بقطع يده فقال : يا رسول الله أعلى ردائي تقطع يده ؟ أنا أهبه له فقال : فهلا قبل أن تأتيني به ؟ ، ثم قطع يده } رواه أهل السنن يعني صلى الله عليه وسلم أنك لو عفوت عنه قبل أن تأتيني به لكان ، فأما بعد أن رفع إلي فلا يجوز تعطيل الحد ، لا بعفو ، ولا بشفاعة ، ولا بهبة ولا [ ص: 92 ] غير ذلك ولهذا اتفق العلماء - فيما أعلم أن قاطع الطريق واللص ونحوهما ، إذا رفعوا إلى ولي الأمر ثم تابوا بعد ذلك لم يسقط الحد عنهم ، بل تجب إقامته وإن تابوا .

        فإذا كانوا صادقين في التوبة كان الحد كفارة لهم ، وكان تمكينهم - وذلك تمام التوبة - بمنزلة رد الحقوق إلى أهلها ، التمكين من استيفاء القصاص ، في حقوق الآدميين ، وأصل هذا في قوله تعالى { من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا } .

        فإن الشفاعة إعانة الطالب حتى تصير معه شفعا ، بعد أن كان وترا ، فإن أعانه على بر وتقوى ، كانت شفاعة حسنة ، وإن أعانه على إثم وعدوان كانت شفاعة سيئة . والبر ما أمرت به ، والإثم ما نهيت عنه ، وإن كانوا كاذبين فإن الله لا يهدي كيد الخائنين .

        وقد قال تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } فاستثنى التائبين قبل القدرة عليهم [ ص: 93 ] فقط ، فالتائب بعد القدرة عليه باق ، فيمن وجب عليه الحد ، للعموم ، والمفهوم ، والتعليل .

        هذا إذا كان قد ثبت بالبينة ، فأما إذا كان بإقرار ، وجاء مقرا بالذنب تائبا ، فهذا فيه نزاع مذكور في غير هذا الموضع .

        وظاهر مذهب أحمد : أنه لا تجب إقامة الحد في مثل هذه الصورة ، بل إن طلب إقامة الحد عليه أقيم ، وإن ذهب ، لم يقم عليه حد .

        وعلى هذا حمل حديث ماعز بن مالك ، لما قال : { فهلا تركتموه } وحديث الذي قال أصبت حدا فأقمه مع آثار أخر .

        وفي سنن أبي داود والنسائي [ ص: 94 ] عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { تعافوا الحدود فيما بينكم ، فما بلغني من حد فقد وجب } .

        وفي سنن النسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : { حد يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحا } .

        وهذا لأن المعاصي سبب لنقص الرزق والخوف من العدو ، كما يدل عليه الكتاب والسنة .

        فإذا أقيمت الحدود ، ظهرت طاعة الله ونقصت معصية الله تعالى ، فحصل الرزق والنصر .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية