الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 175 ] [ ص: 176 ] [ ص: 177 ] مناقشة (247) قضية من (62) سورة قرآنية [ ص: 178 ] [ ص: 179 ] 1- باب: ذكر الآيات اللواتي ادعي عليهن النسخ في سورة البقرة

ذكر الآية الأولى: قوله تعالى: ومما رزقناهم ينفقون اختلف المفسرون في المراد بهذه النفقة على أربعة أقوال: أحدها: أنها النفقة على الأهل والعيال ، قاله ابن مسعود وحذيفة .

[ ص: 180 ] والثاني: الزكاة المفروضة ، قاله ابن عباس ، وقتادة .

والثالث: الصدقات النوافل ، قاله مجاهد والضحاك .

والرابع: أن الإشارة بها إلى نفقة كانت واجبة قبل الزكاة .

ذكره بعض ناقلي التفسير ، وزعموا: أنه كان فرض على الإنسان أن يمسك مما في يده قدر كفايته يومه وليلته ، ويفرق باقيه على الفقراء ثم نسخ ذلك بآية الزكاة ، وهذا قول ليس بصحيح [ ص: 181 ] لأن لفظ الآية لا يتضمن ما ذكروا ، وإنما يتضمن مدح المنفق ، والظاهر ، أنها تشير إلى الزكاة لأنها قرنت مع الإيمان بالصلاة .

وعلى هذا ، لا وجه للنسخ وإن كانت تشير إلى الصدقات النوافل ، والحث عليها باق ، والذي أرى ، ما بها مدح لهم على جميع نفقاتهم في الواجب والنفل ، وقد قال أبو جعفر يزيد بن القعقاع : نسخت آية الزكاة كل صدقة كانت قبلها ، ونسخ صوم رمضان كل صوم كان قبله ، والمراد بهذا كل صدقة وجبت بوجود المال مرسلا كهذه الآية .

[ ص: 182 ] ذكر الآية الثانية: قوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا الآية ، اختلف المفسرون في معنى هذه الآية على ثلاثة أقوال: أحدها: أن المعنى إن الذين آمنوا من هذه الأمة ، والذين هادوا ، وهم أتباع موسى ، والنصارى ، وهم أتباع عيسى ، والصابئون: الخارجون من الكفر إلى الإسلام من آمن ، أي: من دام منهم على الإيمان .

والثاني: إن الذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون والذين هادوا: وهم اليهود ، والنصارى والصابئون: وهم كفار أيضا: من آمن أيمن دخل في الإيمان بنية صادقة .

والثالث: إن المعنى: إن الذين آمنوا ومن آمن من الذين هادوا ، فيكون قوله بعد هذا: من آمن راجعا إلى المذكورين مع الذين آمنوا ، [ ص: 183 ] ومعناه: من يؤمن منهم ، وعلى هذه الأقوال الثلاثة لا وجه لادعاء نسخ هذه الآية ، وقد قيل: إنها منسوخة بقوله: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه .

" فأخبرنا المبارك بن علي الصيرفي ، قال: أخبرنا أحمد بن الحسن بن قريش ، قال: أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل الوراق ، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي داود ، قال: حدثنا يعقوب بن سفيان ، قال: حدثنا أبو صالح ، قال: حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما " إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين الآية ، قال: فأنزل الله تعالى بعد هذه الآية: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين " قلت: فكأنه أشار بهذا إلى النسخ وهذا القول لا يصح لوجهين: [ ص: 184 ] أحدهما: أنه إن أشير بقوله: والذين هادوا والنصارى إلى من كان تابعا لنبيه قبل أن يبعث النبي الآخر ، فأولئك على الصواب ، وإن أشير إلى من كان في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم ، فإن من ضرورة من لم يبدل دينه ولم يحرف أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ويتبعه .

والثاني: أن هذه الآية خبر والأخبار لا يدخلها النسخ .

ذكر الآية الثالثة: قوله تعالى: بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته جمهور المفسرين على أن المراد بالسيئة الشرك ، فلا يتوجه على هذا [ ص: 185 ] القول نسخ أصلا ، وقد روى السدي عن أشياخه: أن المراد بالسيئة الذنب من الذنوب التي وعد الله تعالى عليها النار ، فعلى هذا يتوجه النسخ بقوله: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء على أنه يجوز أن يحمل ذلك ، على من أتى السيئة مستحلا فلا يكون نسخا .

[ ص: 186 ] ذكر الآية الرابعة: قوله تعالى: وقولوا للناس حسنا اختلف المفسرون في المخاطبين بهذا على قولين: أحدهما: أنهم اليهود ، والتقدير من سألكم عن شأن محمد صلى الله عليه وسلم فاصدقوه وبينوا له صفته ولا تكتموا أمره ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، وابن جريج ، ومقاتل .

[ ص: 187 ] والثاني: أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم اختلف أرباب هذا القول ، فقال الحسن مروهم بالمعروف ، وانهوهم عن المنكر ، وقال أبو العالية : وقولوا للناس معروفا ، وقال محمد بن علي بن الحسين : كلموهم بما تحبون أن يقولوا لكم فعلى هذا الآية محكمة .

[ ص: 188 ] وذهب قوم إلى أن المراد بذلك: مساهلة المشركين في دعائهم إلى الإسلام ، فالآية عند هؤلاء منسوخة بآية السيف وهذا قول بعيد ، لأن لفظ الناس عام فتخصيصه بالكفار يفتقر إلى دليل ولا دليل هاهنا ، ثم إن إنذار الكفار من الحسنى .

[ ص: 189 ] ذكر الآية الخامسة: قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ، قال المفسرون: كانت هذه الكلمة لغة في الأنصار ، وهي من راعيت الرجل إذا تأملته وتعرفت أحواله ومنه قولهم: أرعني سمعك ، وكانت الأنصار تقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي بلغة اليهود سب بالرعونة ، وكانوا يقولونها له وينوون بها السب ، فنهى الله سبحانه المؤمنين عن قولها لئلا يقولها اليهود ، [ ص: 190 ] وأمرهم أن يجعلوا مكانها أنظرنا ، وقرأ الحسن ، والأعمش ، وابن المحيصن : راعنا بالتنوين فجعلوه مصدرا ، أي: لا تقولوا رعونة .

وقرأ ابن مسعود : لا تقولوا راعونا على الأمر بالجماعة ، كأنه نهاهم أن يقولوا ذلك فيما بينهم ، والنهي في مخاطبة النبي بذلك أولى ، وهذه الآية قد ذكروها في المنسوخ ، ولا وجه لذلك بحال ، ولولا إيثاري [ ص: 191 ] ذكر ما ادعي عليه النسخ لم أذكرها .

قال أبو جعفر النحاس : هي ناسخة لما كان مباحا قوله .

قلت: وهذا تحريف في القول ، لأنه إذا نهي عن شيء لم تكن الشريعة أتت به ، لم يسم النهي نسخا .

ذكر الآية السادسة: قوله تعالى: فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ، قال المفسرون: أمر الله بالعفو والصفح عن أهل الكتاب قبل أن يؤمر بقتالهم ، ثم نسخ العفو والصفح ، بقوله: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله الآية ، هذا مروي عن ابن مسعود ، وابن عباس رضي الله عنهما وغيرهما .

[ ص: 192 ] " أخبرنا أبو بكر بن حبيب الله العامري ، قال: أخبرنا علي بن الفضل ، قال: أخبرنا عبد الصمد ، قال: أخبرنا ابن حموية ، قال: أخبرنا إبراهيم بن خريم ، قال : بنا عبد الحميد ، قال: بنا مسلم بن إبراهيم ، وأخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أخبرنا أبو الفضل البقال ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أخبرنا إسحاق الكاذي ، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، قال: حدثنا عبد الصمد ، كلاهما عن همام بن يحيى ، عن قتادة ، قال: " أمر الله نبيه أن يعفو عنهم ويصفح ، حتى يأتي الله بأمره ، فأنزل في براءة: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر الآية فنسخها بهذه [ ص: 193 ] الآية ، وأمره فيها بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا ، أو يقروا بالجزية " قال أحمد : وحدثنا عبد الرزاق ، قال: حدثنا معمر ، عن قتادة : " فاعفوا واصفحوا نسختها فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " أخبرنا ابن ناصر ، قال: أخبرنا علي بن أيوب ، قال: أخبرنا ابن شاذان ، قال: أخبرنا أبو بكر النجاد ، قال: أخبرنا أبو داود السجستاني ، قال: أبنا أحمد بن محمد المروزي ، قال: أخبرنا آدم بن أبي إياس ، قال: حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : " فاعفوا واصفحوا ، قال: نسخ بقوله: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر الآية " .

التالي السابق


الخدمات العلمية