الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ الأمر بالرد دليل على أن الكتاب والسنة يشتملان على حكم كل شيء ]

ومنها : أن قوله : { فإن تنازعتم في شيء } نكرة في سياق الشرط تعم كل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين دقه وجله ، جليه وخفيه ، ولو لم يكن في كتاب الله ورسوله بيان حكم ما تنازعوا فيه ولم يكن كافيا لم يأمر بالرد إليه ; إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فضل النزاع .

ومنها : أن الناس أجمعوا أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه ، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته [ ص: 40 ]

[ الرد إلى الله والرسول من موجبات الإيمان ]

ومنها : أنه جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه ، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان ; ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه ، ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين ، وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر ، ثم أخبرهم أن هذا الرد خير لهم ، وأن عاقبته أحسن عاقبة ، ثم أخبر سبحانه أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه ، والطاغوت : كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع ; فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله ، أو يعبدونه من دون الله ، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله ، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله ; فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم [ عدلوا ] من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت ، وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت ، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته ، وهؤلاء لم يسلكوا طريق الناجين الفائزين من هذه الأمة - وهم الصحابة ومن تبعهم - ولا قصدوا قصدهم ، بل خالفوهم في الطريق والقصد معا ، ثم أخبر تعالى عن هؤلاء بأنهم إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول أعرضوا عن ذلك ، ولم يستجيبوا للداعي ، ورضوا بحكم غيره ، ثم توعدهم بأنهم إذا أصابتهم مصيبة في عقولهم وأديانهم وبصائرهم وأبدانهم وأموالهم بسبب إعراضهم عما جاء به الرسول وتحكيم غيره والتحاكم إليه كما قال تعالى : { فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم } اعتذروا بأنهم إنما قصدوا الإحسان والتوفيق ، أي بفعل ما يرضي الفريقين ويوفق بينهما كما يفعله من يروم التوفيق بين ما جاء به الرسول وبين ما خالفه ، ويزعم أنه بذلك محسن قاصد الإصلاح والتوفيق ، والإيمان إنما يقتضي إلقاء الحرب بين ما جاء به الرسول وبين كل ما خالفه من طريقة وحقيقة وعقيدة وسياسة ورأي ; فرخص الإيمان في هذا الحرب لا في التوفيق ، وبالله التوفيق .

ثم أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الدقيق والجليل ، ولم يكتف في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق عن قضائه وحكمه ، ولم يكتف منهم أيضا بذلك حتى يسلموا تسليما ، وينقادوا انقيادا .

وقال تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } فأخبر سبحانه أنه ليس لمؤمن أن يختار بعد قضائه وقضاء رسوله ، ومن تخير بعد ذلك فقد ضل ضلالا مبينا .

[ ص: 41 ] معنى التقدم بين يدي الله ورسوله ]

وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم } أي لا تقولوا حتى يقول ، ولا تأمروا حتى يأمر ، ولا تفتوا حتى يفتي ، ولا تقطعوا أمرا حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويمضيه ، روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة ، وروى العوفي عنه قال : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه .

والقول الجامع في معنى الآية لا تعجلوا بقول ولا فعل قبل أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يفعل وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سببا لحبوط أعمالهم فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياساتهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه ؟ أليس هذا أولى أن يكون محبطا لأعمالهم .

[ ينزع العلم بموت العلماء ]

وقال تعالى : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه } فإذا جعل من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهبا إذا كانوا معه إلا باستئذانه فأولى أن يكون من لوازمه أن لا يذهبوا إلى قول ولا مذهب علمي إلا بعد استئذانه ، وإذنه يعرف بدلالة ما جاء به على أنه أذن فيه .

وفي صحيح البخاري من حديث أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال : حج علينا عبد الله بن عمرو بن العاص فسمعته يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطاكموه انتزاعا ، ولكن ينزعه مع قبض العلماء بعلمهم ، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم ، فيضلون ويضلون } .

وقال وكيع : حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا ينزع الله العلم من صدور الرجال ، ولكن ينزع العلم بموت العلماء ، فإذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فقالوا بالرأي ، فضلوا وأضلوا } وفي الصحيحين من حديث عروة بن الزبير قال : قالت عائشة : يا ابن أختي بلغني أن عبد الله بن عمرو مار بنا إلى الحج ، فالقه فاسأله فإنه قد حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علما كثيرا ، قال : فلقيته فسألته عن أشياء يذكرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال عروة : فكان فيما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الله لا [ ص: 42 ] ينزع العلم من الناس انتزاعا ، ولكن يقبض العلماء فيرفع العلم معهم ، ويبقى في الناس رءوس جهال يفتونهم بغير علم ، فيضلون ويضلون } قال عروة : فلما حدثت عائشة بذلك أعظمت ذلك وأنكرته ، قالت : أحدثك أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا ؟ قال عروة : نعم ، حتى إذا كان عام قابل قالت لي : إن ابن عمرو قد قدم فالقه ثم فاتحه حتى تسأله عن الحديث الذي ذكره لك في العلم ، قال : فلقيته فسألته فذكره لي نحو ما حدثني به في المرة الأولى ، قال عروة : فلما أخبرتها بذلك قالت : ما أحسبه إلا وقد صدق ، أراه لم يزد فيه شيئا ولم ينقص .

وقال البخاري في بعض طرقه { فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون } وقال : فقالت عائشة : والله لقد حفظ عبد الله ; وقال نعيم بن حماد : ثنا ابن المبارك ثنا عيسى بن يونس عن جرير بن عثمان الرحبي ثنا عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم ، يحرمون به ما أحل الله ويحلون ما حرم الله } قال أبو عمر بن عبد البر : هذا هو القياس على غير أصل ، والكلام في الدين بالخرص والظن ، ألا ترى إلى قوله في الحديث : { يحلون الحرام ويحرمون الحلال } ومعلوم أن الحلال ما في كتاب الله وسنة رسوله تحليله ، والحرام ما في كتاب الله وسنة رسوله تحريمه ، فمن جهل ذلك وقال فيما سئل عنه بغير علم ، وقاس برأيه ما خرج منه عن السنة ; فهذا الذي قاس الأمور برأيه فضل وأضل ، ومن رد الفروع إلى أصولها فلم يقل برأيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية