الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3425 [ 1419 ] وعن علي رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، فأغضبوه في شيء، فقال: اجمعوا لي حطبا. فجمعوا، ثم قال: أوقدوا نارا. فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى ! قال: فادخلوها ! قال: فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار ! فكانوا كذلك، وسكن غضبه، وطفئت النار، فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف.

                                                                                              وفي رواية: فأراد ناس أن يدخلوها، وقال الآخرون: إنما فررنا منها ! فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة. وقال للآخرين قولا حسنا، وقال: لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف.


                                                                                              رواه أحمد ( 1 \ 94 )، والبخاري (7257)، ومسلم (1840)، وأبو داود (2625)، والنسائي ( 7 \ 109 ).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              وقول علي " واستعمل عليهم رجلا من الأنصار " ظاهر في أنه ليس [ ص: 40 ] عبد الله بن حذافة ؛ فإنه مهاجري وذلك أنصاري، فافترقا. وقضية عبد الله بن حذافة هي التي ذكر منها ابن عباس رضي الله عنهما طرفا كما تقدم، فلا معنى لقول من قال: إن هذا الذي حكى عنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو عبد الله بن حذافة . وكذلك لا معنى لقول من قال: إن ذلك الأمير إنما أمرهم بدخول النار ليختبر طاعتهم له. وقد قال في هذه الرواية: إنهم أغضبوه. وقال: وسكن غضبه عليهم، فأراد عقوبتهم بذلك. وهذه نصوص في أنه إنما حمله على ذلك غضبه عليهم.

                                                                                              وقوله: " لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة " ظاهر في أنه تحرم الطاعة في المعصية المأمور بها، وأن المطيع فيها يستحق العقاب.

                                                                                              و قوله للآخرين قولا حسنا يدل على مدح المصيب في المجتهدات، كما أن القول الأول يدل على ذم المقصر المخطئ وتعصيته، مع أنه ما كان تقدم لهم في مثل تلك النازلة نص، لكنهم قصروا حيث لم ينظروا في قواعد الشريعة الكلية ومقاصدها المعلومة الجلية.

                                                                                              [ ص: 41 ] وقوله: " إنما الطاعة في المعروف "، " إنما " هذه للتحقيق والحصر؛ فكأنه قال: لا تكون الطاعة إلا في المعروف. ويعني بالمعروف هنا ما ليس بمنكر ولا معصية، فيدخل فيها الطاعات الواجبة والمندوب إليها والأمور الجائزة شرعا، فلو أمر بجائز لصارت طاعته فيه واجبة، ولما حلت مخالفته، فلو أمر بما زجر الشرع عنه زجر تنزيه لا تحريم فهذا مشكل، والأظهر جواز المخالفة تمسكا بقوله: " إنما الطاعة في المعروف "، وهذا ليس بمعروف إلا بأن يخاف على نفسه منه، فله أن يمتثل، والله تعالى أعلم.

                                                                                              تنبيه: هذا الحديث يرد حكاية حكيت عن بعض مشايخ الصوفية؛ وذلك أن مريدا له قال له يوما: قد حمي التنور، فما أصنع؟ فتغافل عنه، فأعاد عليه القول فقال له: ادخل فيه. فدخل المريد في التنور، ثم إن الشيخ تذكر فقال: الحقوه، كان قد عقد على نفسه ألا يخالفني ! فلحقوه فوجدوه في التنور لم تضره النار ! وهذه الحكاية أظنها من الكذب الذي كذب به على هذه الطائفة الفاضلة، فكم قد كذب عليها الزنادقة وأعداء الدين، وبيان ما يحقق ذلك أن هذا الشيخ إما أن يكون قاصدا لأمر ذلك المريد بدخول التنور أو لا، فإن كان قاصدا كان قصده ذلك معصية، ولا طاعة فيها بنص النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون امتثال المريد لذلك معصية، وكيف [ ص: 42 ] تظهر الكرامات على العصاة في حال معصيتهم؟ ! فإن الكرامة تدل على حسن حال من ظهرت على يديه وأنه مطيع لله تعالى في تلك الحالة مع جواز أمر آخر يكون في المستقبل، وإن كان ذلك الشيخ غير قاصد لذلك ولا شاعر بما صدر عنه فكيف يحل للمريد أن يلقي نفسه في النار بأمر غلط لا حقيقة له؟ ! ثم هذا المريد عاص بذلك الفعل، ولا يظهر على العاصي كرامة في حال ملابسته للمعصية، ولو جاز ذلك لجاز للزناة وشربة الخمر والفسقة أن يدعوا الكرامات وهم ملابسون لفسقهم، هذا ما لا يجوز إجماعا، وإنما تنسب الكرامات لأولياء الله وهم أهل طاعته لا إلى أولياء الشيطان، وهم أهل الفسق والعصيان.

                                                                                              والأولى في هذه الحكاية وأشباهها مما لا يليق بأحوال الفضلاء والعلماء الطعن على الناقل لا على المنقول عنه، والله تعالى أعلم.

                                                                                              فإن قيل: إن الشيخ لم يكن قاصدا لإدخال المريد نفسه النار، وإنما صدر ذلك منه على جهة التأديب والتغليظ لكونه أكثر عليه من السؤال، فكأنه قطعه عما كان أولى به في ذلك الحال، والمريد لصحة اعتقاده في شيخه وللوفاء بما جعل له عليه من الطاعة وترك المخالفة ولاعتقاده أنه لا يأمره إلا بما فيه مصلحة دينية، ثم إنه قد صح توكل هذا المريد على الله تعالى وصدقه في حاله، فيحتمل له من مجموع ذلك أن الله تعالى ينجيه من النار ويجعل له في ذلك مخرجا.

                                                                                              والجواب أن يقول من يجوز الإقدام على تلك الحالة بتلك القيود المذكورة يلزمه أن يجوز ما هو محرم إجماعا، بيان ذلك: أنه لو قال له على تلك الحال بتلك القيود اقتل فلانا المسلم، أو: ازن بفلانة، أو: اشرب الخمر - [ ص: 43 ] لم يجز الإقدام على شيء من ذلك بالإجماع، ولو كانت له تلك القيود كلها. ولا فرق بين صورة الحكاية المذكورة وبين هذه الصور التي ذكرناها؛ إذ الكل محرم قطعا، وإن جوز انخراق العادة في أن النار لا تحرق والسيف لا يحز الرقبة، والمدية لا تقطع الحلق، لكن هذه التجويزات لا يلتفت إليها ولا تهد القواعد الشرعية لأجلها، فلو أقدم على شيء من تلك الأمور لأجل أمر هذا الشيخ لكان عاصيا، فكذلك إذا ألقى نفسه في النار، ولا فرق.

                                                                                              ثم نقول: إن التوكل على الله لا يصح مع المخالفة والمعصية، وذلك أن التوكل على الله تعالى هو الاعتماد عليه والتفويض إليه فيما يجوز الإقدام عليه أو فيما يخاف وقوعه أو يرتجى حصوله، وقد يفضي التوكل بصاحبه إلى ألا يخاف شيئا إلا الله ولا يرجو سواه؛ إذ لا فاعل على الحقيقة إلا هو، وهذه الحالة إنما تثمرها المعرفة بالله تعالى وبأحكامه وملازمة الطاعة والتقوى والتوفيق الخاص الإلهي.

                                                                                              وعلى هذا فمن المحال حصول هذه الحالة مع المعصية والمخالفة، والصحيح ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو دخلوها ما خرجوا منها "، وهذا هو الحق المبين ولو كره أكثر الجاهلين.

                                                                                              ومن نوع هذه الحكاية حكاية أبي حمزة الذي وقع في البئر، ثم جاء قوم وغطوا البئر وهو في قعره ساكت لم يتكلم؛ متوكلا على الله تعالى، إلى أن غطوا البئر وانصرفوا - وللكلام في هذا موضع آخر.




                                                                                              الخدمات العلمية