الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3431 [ 1423 ] وعن عبد الله بن عمرو قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزلنا منزلا، فمنا من يصلح خباءه ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جشره، إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة ! فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيدفق بعضها بعضا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي ! ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه ! فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر. قال عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة: فدنوت منه فقلت: أنشدك الله، آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي ! فقلت له: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا، والله يقول: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم، قال: فسكت ساعة، ثم قال: أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله.

                                                                                              رواه مسلم (1844)، وأبو داود (4248)، والنسائي ( 7 \ 153 ).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              وقوله: " ومنا من ينتضل "؛ أي: يرمي بالسهام تدربا ومداومة - والمناضلة: المراماة بالسهام.

                                                                                              وقوله: " ومنا من هو في جشره "، قال أبو عبيد : الجشر قوم يخرجون إلى المرعى بدوابهم. قال الأصمعي : وهم يبيتون فيه، فربما رأوا أنه سفر تقصر فيه الصلاة وليس كذلك، ولذلك قال في حديث عثمان : " لا يغرنكم جشركم من صلاتكم "؛ يعني: لا تقصروا صلاتكم فيه.

                                                                                              وقول منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم " الصلاة جامعة " خبر بمعنى الأمر؛ كأنه قال: [ ص: 51 ] اجتمعوا للصلاة. وكأنه كان وقت صلاة، فلما جاءوا صلوا معه، وسكت الراوي عن ذلك، وإلا فمن المحال أن ينادي منادي الصادق بالصلاة ولا صلاة.

                                                                                              وقوله صلى الله عليه وسلم: " إنه لم يكن نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم "؛ أي: حقا واجبا؛ لأن ذلك من طريق النصيحة والاجتهاد في التبليغ والبيان.

                                                                                              وقوله: " وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها "، يعني بأول الأمة زمانه وزمان الخلفاء الثلاثة إلى قتل عثمان ، فهذه الأزمنة كانت أزمنة اتفاق هذه الأمة واستقامة أمرها وعافية دينها، فلما قتل عثمان ماجت الفتن كموج البحر، وتتابعت كقطع الليل المظلم، ثم لم تزل ولا تزال متوالية إلى يوم القيامة. وعلى هذا فأول آخر هذه الأمة - المعني في هذا الحديث - مقتل عثمان ، وهو آخر بالنسبة إلى ما قبله من زمان الاستقامة والعافية، وقد دل على هذا قوله: " وأمور تنكرونها "، والخطاب لأصحابه - فدل على أن منهم من يدرك أول ما سماه آخرا، وكذلك كان.

                                                                                              وقوله: " وتجيء الفتنة فيدفق بعضها بعضا "، الرواية " يدفق " بالتخفيف وفتح الياء، هذه رواية الطبري عن الفارسي، ومعنى " فيدفق " يدفع، والدفق الدفع.

                                                                                              [ ص: 52 ] ومنه الماء الدافق. ويعني: أنها كموج البحر الذي يدفق بعضه بعضا، وشبه المؤمن في هذه الفتن بالعائم الغريق بين الأمواج، فإذا أقبلت عليه موجة قال: هذه مهلكتي ! ثم تروح عنه تلك، فتأتيه أخرى فيقول: هذه هذه ! إلى أن يغرق بالكلية، وهذا تشبيه واقع. ورواه أكثر الرواة " فيرقق " بالراء المفتوحة والقاف الأولى المكسورة؛ أي: يسيب بعضها بعضا ويشير إليه، كما قالوا في المثل: عن صبوح ترقق؟

                                                                                              و " يزحزح عن النار ": ينحى عنها ويؤخر منها.

                                                                                              وقوله: " وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه "؛ أي: يجيء إلى الناس بحقوقهم من النصح والنية الحسنة بمثل الذي يحب أن يجاء إليه به، وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "، والناس هنا الأئمة والأمراء، فيجب عليه لهم من السمع والطاعة والنصرة والنصيحة مثل ما لو كان هو الأمير لكان يحب أن يجاء له به.

                                                                                              وقوله: " ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة فؤاده " يدل على أن البيعة لا يكتفى فيها بمجرد عقد اللسان فقط، بل لا بد من الضرب باليد، كما قال تعالى: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم [الفتح: 10]. ولكن [ ص: 53 ] ذلك للرجال فقط على ما يأتي، ولا بد من التزام البيعة بالقلب وترك الغش والخديعة فإنها من أعظم العبادات، فلا بد فيها من النية والنصيحة.

                                                                                              و " الصفقة " أصلها الضرب بالكف على الكف أو بأصبعين على الكف، وهو التصفيق، وقد تقدم في كتاب الصلاة.

                                                                                              واستحلاف عبد الرحمن زيادة في الاستيثاق لا أنه كذبه ولا اتهمه، وما ذكره عبد الرحمن عن معاوية إغياء في الكلام على حسب ظنه وتأويله، وإلا فمعاوية رضي الله عنه لم يعرف من حاله ولا من سيرته شيء مما قاله له، وإنما هذا كما قالت طائفة من الأعراب: إن ناسا من المصدقين يظلموننا - فسموا أخذ الصدقة ظلما حسب ما وقع لهم.

                                                                                              وقول ابن عمرو " أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله "، هذا كما قاله صلى الله عليه وسلم: " فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ".




                                                                                              الخدمات العلمية