الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3229 [ 1803 ] وعنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه.

                                                                                              رواه مسلم (1711) (2) والترمذي (1342). [ ص: 147 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 147 ] (24) كتاب الأقضية

                                                                                              (1) ومن باب اليمين على المدعى عليه

                                                                                              (قوله: لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه ) هذا الحديث رواه مسلم والبخاري مرفوعا من حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس .

                                                                                              قال الأصيلي : لا يصح رفعه، وإنما هو من قول ابن عباس ، كذلك رواه أيوب ونافع الجمحي عن ابن أبي مليكة .

                                                                                              قلت : إذا صح رفعه بشهادة الإمامين فلا يضره من وقفه، ولا يكون ذلك [ ص: 148 ] تعارضا، ولا اضطرابا، فإن الراوي قد يعرض له ما يوجب السكوت عن الرفع من نسيان، أو اكتفاء بعلم السامع، أو غير ذلك. والرافع عدل، ثبت، ولم يكذبه الآخر، فلا يلتفت إلى الوقف إلا في الترجيح عند التعارض، كما بيناه في الأصول.

                                                                                              وهذا الحديث أصل من أصول الأحكام، وأعظم مرجع عند التنازع والخصام، يقتضي ألا يحكم لأحد بدعواه - وإن كان فاضلا شريفا - بحق من الحقوق - وإن كان محتقرا يسيرا - حتى يستند المدعي إلى ما يقوي دعواه، وإلا فالدعاوي متكافئة، والأصل: براءة الذمم من الحقوق، فلا بد مما يدل على تعلق الحق بالذمة، وتترجح به الدعوى.

                                                                                              و(قوله: لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ) استدل به بعض الناس على إبطال قول مالك في التدمية.

                                                                                              ووجه استدلاله: أنه - صلى الله عليه وسلم - قد سوى بين الدماء والأموال في أن المدعي لا يسمع قوله فيها، فإذا لم يسمع قول المدعي في مرضه: لي عند فلان دينار أو درهم; كان أحرى وأولى ألا يسمع قوله: دمي عند فلان; لحرمة الدماء، ولا حجة لهم فيه; لأن مالكا - رحمه الله - لم يسند القصاص أو الدية في التدمية لقول المدعي: دمي عند فلان; بل للقسامة على القتل، والتدمية لوث يقوي جنبة المدعين حتى يبدؤوا بالأيمان كسائر أنواع اللوث التي تقدم ذكرها في كتاب القسامة، وقد بينا ذلك فيه، وعلى هذا: فنقول بموجب الحديث، فتأمله.

                                                                                              و(قوله: ولكن اليمين على المدعى عليه ) المدعى عليه: هو المطلوب منه، والمدعي: هو الطالب، وإنما كانت اليمين على المدعى عليه; لأن الأصل براءة ذمته عما طلب منه، وهو متمسك به. لكن يمكن أن يقال: قد شغلها بما طلب منه، فيدفع ذلك الاحتمال عن نفسه باليمين إن شاء، وظاهر عموم هذا اللفظ [ ص: 149 ] يقتضي: أن اليمين تتوجه على كل من ادعي عليه; كانت هنالك مخالطة أو لم تكن، وهو قول أكثر الفقهاء،وابن نافع ، وابن لبابة من أصحابنا.

                                                                                              وذهب مالك وجل أصحابه: إلى أن اليمين لا تتوجه على المدعى عليه حتى تثبت بينهما خلطة، وهو مذهب الفقهاء السبعة ، وبه قضى علي ، وإنما مال هؤلاء إلى هذا مراعاة للمصلحة، ودفعا للمفسدة الناشئة من ذلك؛ وذلك: أن السفهاء يتبذلون الأفاضل والعلماء بتكثير الأيمان عليهم مهما شاؤوا، حتى يحلف الرجل الجليل القدر في العلم والدين في اليوم الواحد مرارا، ويكون ذلك الوضيع يقصد ذلك به ليتخلص منه بما يبذله، ويهون على أهل الدين والفضل بذل الجزيل من المال في مقابلة دفع هذا الامتهان والابتذال.

                                                                                              ثم اختلف مشايخنا في معنى الخلطة. فقيل: معرفة المعاملة والمداينة معه بشاهد أو شاهدين. وقيل: أن يكون المدعى عليه يشبه أن يعامل المدعي. وقيل: يجزئ من ذلك الشبهة.

                                                                                              وأجمع العلماء على استحلاف المدعى عليه في الأموال، واختلفوا في غير ذلك، فذهب الشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور إلى وجوبها على كل مدعى عليه في حد، أو طلاق، أو نكاح، أو عتق; أخذا بظاهر عموم الحديث، فإن نكل حلف المدعي، وثبتت دعواه، وقال أبو حنيفة ، وأصحابه: يحلف على النكاح، والطلاق، والعتق، وإن نكل لزمه ذلك كله. وقال الثوري ، والشعبي ، وأبو حنيفة : لا يستحلف في الحدود والسرقة. وقال نحوه مالك . قال: ولا يستحلف في السرقة إلا إذا كان متهما، ولا في الحدود، والنكاح، والطلاق، والعتق، إلا أن يقوم شاهد واحد، فيستحلف المدعى عليه لقوة شبهة الدعوى.

                                                                                              واختلف قوله إذا نكل [ ص: 150 ] هل يحكم عليه بما ادعي عليه، أو يسجن حتى يحلف، أو حتى يطول سجنه؟ وفي كتاب الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا ادعت المرأة طلاق زوجها، فأتت على ذلك بشاهد عدل; استحلف زوجها، فإن حلف بطلت شهادة الشاهد، وإن نكل فنكوله بمنزلة شاهد آخر، وجاز طلاقه). وهذا الحديث نص في الباب، لكنه يحتاج إلى قوائم وأطناب.

                                                                                              و(قوله: البينة على المدعي ) هذا بيان حكم المدعي، وإن لم يتعرض لبيان حكم المدعى عليه، وهو تعيين اليمين عليه، لكنه قد بين ذلك في حديث الحضرمي الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - للمدعي: (شاهداك أو يمينه) وقد تقدم في الأيمان.

                                                                                              وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( البينة على المدعي، واليمين على من أنكر; إلا في القسامة ) وهذا الحديث وإن كان ضعيف السند - لأنه من حديث مسلم بن خالد الزنجي ، ولا يحتج به - فمعناه صحيح، يشهد له قوله - صلى الله عليه وسلم -: (شاهداك أو يمينه)، وقول ابن عباس في الطريق الأخرى: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين على المدعى عليه.




                                                                                              الخدمات العلمية