الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال الدرجة الثانية : الرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل . وهو يورث الخلاص من رؤية الأعمال . ويقطع شهود الأحوال . ويمحص من أدناس مطالعة المقامات .

يريد بالرجوع إلى السبق : الالتفات إلى ما سبقت به السابقة من الله بمطالعة فضله ومنته وجوده . وأن العبد - وكل ما فيه من خير - فهو محض جود الله وإحسانه . وليس للعبد من ذاته سوى العدم . وذاته وصفاته وإيمانه وأعماله كلها من فضل الله عليه . فإذا شهد هذا وأحضره قلبه . وتحقق به : خلصه من رؤية أعماله . فإنه لا يراها إلا من الله وبالله . وليست منه هو ولا به .

واتفقت كلمة الطائفة على أن رؤية الأعمال حجاب بين العبد وبين الله . ويخلصه منها : شهود السبق ، ومطالعة الفضل .

وقوله : ويقطع شهود الأحوال .

لأنه إذا طالع سبق فضل الله : علم أن كل ما حصل له من حال أو غيره ، فهو محض جوده . فلا يشهد له حالا مع الله ولا مقاما ، كما لم يشهد له عملا . فقد جعل عدته للقاء ربه : فقره من أعماله وأحواله . فهو لا يقدم عليه إلا بالفقر المحض . فالفقر خير العلاقة التي بينه وبين ربه ، والنسبة التي ينتسب بها إليه ، والباب الذي يدخل منه عليه .

وكذلك قوله : يمحص من أدناس مطالعة المقامات .

هو من جنس التخلص من رؤية الأعمال ، والانقطاع عن رؤية شهود الأحوال ، ومطالعة المقامات : دنس عند هذه الطائفة . فمطالعة الفضل يمحص من هذا الدنس .

والفرق بين الحال والمقام : أن الحال معنى يرد على القلب من غير اجتلاب له ، ولا اكتساب ، ولا تعمد . والمقام يتوصل إليه بنوع كسب وطلب .

فالأحوال عندهم مواهب ، والمقامات مكاسب . فالمقام يحصل ببذل المجهود . وأما الحال : فمن عين الجود .

ولما دخل الواسطي نيسابور سأل أصحاب أبي عثمان : بماذا كان يأمركم شيخكم ؟ [ ص: 418 ] فقالوا : كان يأمر بالتزام الطاعات ، ورؤية التقصير فيها . فقال : أمركم بالمجوسية المحضة . هلا أمركم بالغيبة عنها برؤية منشئها ومجريها ؟ .

قلت : لم يأمرهم أبو عثمان رحمه الله إلا بالحنيفية المحضة . وهي القيام بالأمر ومطالعة التقصير فيه . وليس في هذا من رائحة المجوسية شيء . فإنه إذا بذل الطاعة لله وبالله صانه ذلك عن الاتحاد والشرك . وإذا شهد تقصيره فيها صانه عن الإعجاب . فيكون قائما ب إياك نعبد وإياك نستعين .

وأما ما أشار إليه الواسطي : فمشهد الفناء . ولا ريب أن مشهد البقاء أكمل . فإن من غاب عن طاعاته : لم يشهد تقصيره فيها . ومن تمام العبودية : شهود التقصير . فمشهد أبي عثمان أتم من مشهد الواسطي .

و أبو عثمان هذا : هو سعيد بن إسماعيل النيسابوري من جلة شيوخ القوم وعارفيهم . وكان يقال : في الدنيا ثلاثة ، لا رابع لهم : أبو عثمان النيسابوري بنيسابور ، و الجنيد ببغداد ، و أبو عبد الله بن الجلا بالشام . وله كلام رفيع عال في التصوف والمعرفة . وكان شديد الوصية باتباع السنة ، وتحكيمها ولزومها . ولما حضرته الوفاة مزق ابنه قميصا على نفسه . ففتح أبو عثمان عينيه ، وهو في السياق . فقال : يا بني خلاف السنة في الظاهر ، علامة رياء في الباطن .

التالي السابق


الخدمات العلمية