الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الموضع السادس

في اختلاف الزوجين في الصداق

واختلافهم لا يخلو أن يكون في القبض أو في القدر ، أو في الجنس ، أو في الوقت ( أعني : وقت الوجوب ) .

فأما إذا اختلفا في القدر فقالت المرأة مثلا بمائتين ، وقال الزوج : بمائة ، فإن الفقهاء اختلفوا في ذلك اختلافا كثيرا ، فقال مالك : إنه إن كان الاختلاف قبل الدخول وأتى الزوج بما يشبه ، والمرأة بما يشبه أنهما يتحالفان ويتفاسخان . وإن حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف . وإن نكلا جميعا كان بمنزلة ما إذا حلفا جميعا . ومن أتى بما يشبه منهما كان القول قوله . وإن كان الاختلاف بعد الدخول فالقول قول الزوج . وقالت طائفة : القول قول الزوج مع يمينه ، وبه قال أبو ثور ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة وجماعة . وقالت طائفة : القول قول الزوجة إلى مهر مثلها ، وقول الزوج فيما زاد على مهر مثلها . وقالت طائفة : إذا اختلفا تحالفا ورجع إلى مهر المثل ، ولم تر الفسخ كمالك ، وهو مذهب الشافعي ، والثوري ، وجماعة . وقد قيل : إنها ترد إلى صداق المثل دون يمين ; ما لم يكن صداق المثل أكثر مما ادعت ، وأقل مما ادعى هو .

واختلافهم مبني على اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام : " البينة على من ادعى واليمين على من أنكر " هل ذلك معلل أو غير معلل ؟ .

[ ص: 417 ] فمن قال : معلل قال : يحلف أبدا أقواهما شبهة ، فإن استويا تحالفا وتفاسخا .

ومن قال : غير معلل قال : يحلف الزوج لأنها تقر له بالنكاح وجنس الصداق ، وتدعي عليه قدرا زائدا ، فهو مدعى عليه . وقيل أيضا : يتحالفان أبدا ، لأن كل واحد منهما مدعى عليه ، وذلك عند من لم يراع الأشباه ، والخلاف في ذلك في المذهب .

ومن قال : القول قولها إلى مهر المثل ; والقول قوله فيما زاد على مهر المثل رأى أنهما لا يستويان أبدا في الدعوى ، بل يكون أحدهما ولا بد أقوى شبهة ، وذلك أنه لا يخلو دعواها من أن يكون فيما يعادل صداق مثلها فما دونه ، فيكون القول قولها ، أو يكون فيما فوق ذلك فيكون القول قوله .

وسبب اختلاف مالك والشافعي في التفاسخ بعد التحالف والرجوع إلى صداق المثل هو : هل يشبه النكاح بالبيع في ذلك أم ليس يشبه ؟ فمن قال : يشبه به قال بالتفاسخ . ومن قال : لا يشبه ; لأن الصداق ليس من شرط صحة العقد قال بصداق المثل بعد التحالف وكذلك من زعم من أصحاب مالك أنه لا يجوز لهما بعد التحالف أن يتراضيا على شيء ; ولا أن يرجع أحدهما إلى قول الآخر ويرضى به ; فهو في غاية الضعف . ومن ذهب إلى هذا فإنما يشبه باللعان ، وهو تشبيه ضعيف ، مع أن وجود هذا الحكم للعان مختلف فيه .

وأما إذا اختلفا في القبض فقالت الزوجة : لم أقبض ، وقال الزوج : قد قبضت ، فقال الجمهور : القول قول المرأة ، الشافعي ، والثوري ، وأحمد ، وأبو ثور . وقال مالك : القول قولها قبل الدخول ، والقول قوله بعد الدخول . وقال بعض أصحابه : إنما قال ذلك مالك لأن العرف بالمدينة كان عندهم أن لا يدخل الزوج حتى يدفع الصداق ، فإن كان بلد ليس فيه هذا العرف كان القول قولها أبدا ; والقول بأن القول قولها أبدا أحسن ، لأنها مدعى عليها ، ولكن مالك راعى قوة الشبهة التي له إذا دخل بها الزوج .

واختلف أصحاب مالك إذا طال الدخول هل يكون القول قوله بيمين ، أو بغير يمين أحسن .

وأما إذا اختلف في جنس الصداق فقال هو مثلا : زوجتك على هذا العبد ، وقالت هي : زوجتك على هذا الثوب ، فالمشهور في المذهب أنهما يتحالفان ويتفاسخان إن كان الاختلاف قبل البناء وإن كان بعد البناء ثبت ، وكان لها صداق مثل ما لم يكن أكثر مما ادعت أو أقل مما اعترف به . وقال ابن القصار : يتحالفان قبل الدخول ، والقول قول الزوج بعد الدخول . وقال أصبغ : القول قول الزوج إن كان يشبه ، سواء أشبه قولهما أو لم يشبه ، فإن لم يشبه قول الزوج : فإن كان قولها مشبها كان القول قولها ، وإن لم يكن قولها مشبها تحالفا ، وكان لها صداق المثل . وقول الشافعي في هذه المسألة مثل قوله عند اختلافها في القدر ( أعني : يتحالفان ويتراجعان إلى مهر المثل ) .

وسبب قول الفقهاء بالتفاسخ في البيع ستعرف أصله في كتاب البيوع إن شاء الله .

وأما اختلافهم في الوقت : فإنه يتصور في الكالئ . والذي يجيء على أصل قول مالك فيه في المشهور عنه أن القول في الأجل قول الغارم ، قياسا على البيع ، وفيه خلاف ، ويتصور أيضا متى يجب : هل قبل الدخول أو بعده ؟ فمن شبه النكاح بالبيوع قال : لا يجب إلا بعد الدخول قياسا على البيع ، إذ لا يجب الثمن على المشتري إلا بعد قبض السلعة . ومن رأى أن الصداق عبادة يشترط في الحلية قال : يجب قبل [ ص: 418 ] الدخول ، ولذلك استحب مالك أن يقدم الزوج قبل الدخول شيئا من الصداق .

التالي السابق


الخدمات العلمية