الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              5262 [ 2693 ] وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : إذا فتحت عليكم فارس والروم ، أي قوم أنتم ؟ قال عبد الرحمن بن عوف : نقول كما أمرنا الله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو غير ذلك ، تتنافسون ثم تتحاسدون ، ثم تتدابرون ، ثم تتباغضون ، أو نحو ذلك . ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض .

                                                                                              رواه مسلم (2962) ، وابن ماجه (3996) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قوله : " إذا فتحت عليكم فارس والروم ، أي قوم أنتم ؟ ") هذا استفهام يشوبه إخبار منه صلى الله عليه وسلم عن أمر قبل وقوعه ، وقع على نحو ما أخبر عنه ، فكان ذلك من أدلة صحة نبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم ، وكم له صلى الله عليه وسلم منها ، وكم ! ومعنى : (أي قوم أنتم ؟) [ ص: 114 ] أي : على أي حال تكونون ؟ فكأنه قال : أتبقون على ما أنتم عليه ؟ أو تتغير بكم الحال ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف : نقول كما أمرنا الله تعالى . أي : نقول قولا مثل الذي أمرنا الله ، وكان هذا منه إشارة إلى قول الله تعالى :حسبنا الله ونعم الوكيل [ آل عمران : 173 ] وذلك أنه فهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف عليهم الفتنة من بسط الدنيا عليهم ، فأجابه بذلك ، فكأنه قال : نستكفي الفتن والمحن بالله ، ونقول كما أمرنا ، وهذا إخبار منهم عما يقتضيه حالهم في ذلك الوقت ، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم لا يبقون على تلك الحال ، وأنها تتغير بهم . وقال بعض الشارحين : لعله : نكون كما أمرنا الله ، وهذا تقدير غلط للرواة ، لا يحتاج إليه مع صحة المعنى الذي أبديناه ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              و (قوله : " أو غير ذلك ") هو بسكون الواو ، وهي القاطعة ، و (غير) بالنصب على إضمار فعل ، تقديره : أو تفعلون غير ذلك ، ويجوز رفعه على تقدير : أو يكون غير ذلك .

                                                                                              و (قوله : " تتنافسون ، ثم تتحاسدون ، ثم تتدابرون ، ثم تتباغضون ") أي : تتسابقون إلى أخذ الدنيا ، ثم تتحاسدون بعد الأخذ ، ثم تتقاطعون ، فيولي كل واحد منكم دبره عن الآخر معرضا عنه ، ثم تثبت البغضاء في القلوب ، وتتراكم حتى يكون عنها الخلاف ، والقتال ، والهلاك ، كما قد وجد .

                                                                                              و (قوله : " ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض ") ، وفي رواية السمرقندي : " فتحملون " ، قال بعضهم : لعل أصول هذا [ ص: 115 ] الكلام : " ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين " . قال القاضي : لا أدري ما الذي حمل هذا على تفسير الرواية مع عدم توجيه الكلام على ما قبله ، واستقلاله بالمراد ، لا سيما مع قوله بعد هذا : " فتحملون بعضهم على رقاب بعض " . والأشبه أن يكون الكلام على وجهه ، وأراد أن مساكين المهاجرين وضعفتهم ستفتح عليهم إذ ذاك الدنيا ، حتى يكونوا أمراء بعضهم على رقاب بعض .

                                                                                              قلت : والعجب من إنكار القاضي على هذا المتأول ، واختياره هذا المعنى الذي لا يقبله مساق الحديث ، ولا يشهد له معناه ، وذلك أن معنى الحديث : أنه أخبرهم أنهم تتغير بهم الحال ، وأنهم يصدر عنهم أو عن بعضهم أحوال غير مرضية ، تخالف حالهم التي كانوا عليها معه من التنافس والتباغض ، وانطلاقهم في مساكين المهاجرين ، فلا بد أن يكون هذا الوصف غير مرضي كالأوصاف التي قبله ، وأن تكون تلك الأوصاف المتقدمة توجبه ، وحينئذ يلتئم الكلام أوله وآخره ، ولا يصح ذلك إلا بذلك التقدير الذي أنكر القاضي ، فيكون معنى الحديث أنه إذا وقع التنافس والتحاسد والتباغض ، حملهم ذلك على أن يأخذ القوي ما أفاءه الله تعالى على المسكين الذي لا يقدر على مدافعته ، فيمنعه عنه ظلما ، وهذا بمقتضى التنافس والتحاسد والتباغض ، ويعضده رواية السمرقندي : " فيحملون بعضهم [ ص: 116 ] على رقاب بعضهم " . أي : بالقهر والغلبة ، وأما ما اختاره القاضي فغير ملائم للحديث ، فتدبره تجده كما أخبرتك ، والله تعالى أعلم .




                                                                                              الخدمات العلمية