الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              5273 [ 2710 ] وعن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا .

                                                                                              وفي رواية : كفافا .

                                                                                              رواه أحمد (2 \ 446) ، والبخاري (6460) ، ومسلم في الزهد (1055) (18 و 19) ، والترمذي (2361) ، وابن ماجه (4139) .

                                                                                              [ ص: 130 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 130 ] و (قوله صلى الله عليه وسلم : " اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا ") أي : كفافا ، كما جاء في الرواية الأخرى ، ويعني به : ما يقوت الأبدان ويكف عن الحاجة والفاقة ، وهذا الحديث حجة لمن قال : إن الكفاف أفضل من الغنى والفقر ، وقد تقدمت هذه المسألة في الزكاة . ووجه التمسك بهذا الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يدعو لنفسه بأفضل الأحوال ، وأيضا : فإن الكفاف حالة متوسطة بين الغنى والفقر ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " خير الأمور أوساطها " . وأيضا : فإن هذه الحال سليمة من آفات الغنى ، وآفات الفقر المدقع ، فكانت أفضل منها ، ثم إن حالة صاحب الكفاف حالة الفقير ; إذ لا يترفه في طيبات الدنيا ولا في زهرتها ، فكانت حاله إلى الفقر أقرب ، فقد حصل له ما حصل للفقير من الثواب على الصبر ، وكفي مرارته وآفاته . لا يقال : فقد كانت حالة رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر الشديد المدقع ، كما دلت عليه أحاديث [ ص: 131 ] هذا الباب وغيرها ، ألا ترى أنه يطوي الأيام ، ولا يشبع يومين متواليين ، ويشد على بطنه الحجر من الجوع والحجرين ، ولم يكن له سوى ثوب واحد ، فإذا غسله انتظره إلى أن يجف ، وربما خرج وفيه بقع الماء ، ومات ودرعه مرهونة في شعير لأهله ، ولم يخلف دينارا ولا درهما ، ولا شاة ، ولا بعيرا ، ولا حالة في الفقر أشد من هذه ، وعلى هذا فلم يكن حاله الكفاف ، بل : الفقر . فلم يجبه الله تعالى في الكفاف ; لعلمه بأن الفقر أفضل له ; لأنا نقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع له حال الفقر والغنى والكفاف ، فكانت أول أحواله الفقر ; مبالغة في مجاهدة النفس وخطامها عن مألوفات عاداتها ، فلما حصلت له ملكة ملكها وتخلص له خلاصة سبكها ، خيره الله تعالى في أن يجعل له جبال تهامة ذهبا تسير معه حيث سار ، فلم يلتفت إليها ، وجاءته فتوحات الدنيا فلم يعرج عليها ، بل صرفها وانصرف عنها ، حتى قال : " ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس ، والخمس مردود فيكم " . وهذه حالة الغني الشاكر ، ثم اقتصر من ذلك كله على قدر ما يرد ضروراته وضرورات عياله ، ويرد حاجتهم ، فاقتنى أرضه بخيبر ، وكان يأخذ منها قوت عياله ويدخره لهم سنة ، فاندفع عنه الفقر المدقع ، وحصل الكفاف الذي دعا به ، ثم إنه لما احتضر وقف تلك الأرض على أهله ليدوم لهم ذلك الكفاف الذي ارتضاه لنفسه ، ولتظهر إجابة دعوته حتى في أهله من بعده ، وعلى ذلك المنهج نهج الخلفاء الراشدون على ما تدل عليه سيرهم وأخبارهم . وعلى هذا فأهل الكفاف هم صدر [ ص: 132 ] كتيبة الفقراء الداخلين الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام ; لأنهم وسطهم ، والوسط : العدل . وليسوا من الأغنياء كما قررناه ، فاقتضى ذلك ما ذكرناه ، والله تعالى أعلم .




                                                                                              الخدمات العلمية