الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
بيان منزلة صاحب السنة وصاحب البدعة :

فصاحب السنة : حي القلب ، مستنير القلب ، وصاحب البدعة : ميت القلب مظلمه .

وقد ذكر الله سبحانه هذين الأصلين في كتابه في غير موضع وجعلهما صفة أهل الإيمان وجعل ضدهما صفة من خرج عن الإيمان ، فإن القلب الحي المستنير هو الذي عقل عن الله ، وأذعن وفهم عنه ، وانقاد لتوحيده ، ومتابعة ما بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم . " والقلب الميت المظلم الذي لم يعقل عن الله ولا انقاد لما بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، ولهذا يصف سبحانه [ ص: 40 ] هذا الضرب من الناس بأنهم أموات غير أحياء ، وبأنهم في الظلمات لا يخرجون منها ، ولهذا كانت الظلمة مستولية عليهم في جميع جهاتهم فقلوبهم مظلمة ترى الحق في صورة الباطل ، والباطل في صورة الحق ، وأعمالهم مظلمة ، وأقوالهم مظلمة ، وأحوالهم كلها مظلمة ، وقبورهم ممتلئة عليهم ظلمة .

وإذا قسمت الأنوار دون الجسر للعبور عليه بقوا في الظلمات ، ومدخلهم في النار مظلم ، وهذه الظلمة هي التي خلق فيها الخلق أولا ، فمن أراد الله سبحانه وتعالى به السعادة أخرجه منها إلى النور ، ومن أراد به الشقاوة تركه فيها ، كما روى الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره ، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل ، فلذلك أقول جف القلم على علم الله ) " ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله تعالى أن يجعل له [ ص: 41 ] نورا في قلبه وسمعه وبصره وشعره وبشره ولحمه وعظمه ودمه ومن فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله وخلفه وأمامه وأن يجعل ذاته نورا ، فطلب صلى الله عليه وسلم النور لذاته ولأبعاضه ولحواسه الظاهرة والباطنة ولجهاته الست .

وقال أبي بن كعب " رضي الله عنه " : " المؤمن مدخله من نور ، ومخرجه من نور ، وقوله نور ، وعمله نور . . " وهذا النور بحسب قوته وضعفه يظهر لصاحبه يوم القيامة فيسعى بين يديه ويمينه . فمن الناس من يكون نوره كالشمس ، وآخر كالنجم ، وآخر كالنخلة السحوق ، وآخر دون ذلك حتى " إن " منهم من يعطى نورا على رأس إبهام قدمه يضيء مرة ويطفئ أخرى ، كما كان نور إيمانه ومتابعته في الدنيا كذلك ، فهو هذا بعينه يظهر هناك للحس والعيان .

وقال تعالى : ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا . . ) الآية فسمى وحيه وأمره روحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح . وسماه نورا ; لما يحصل به من الهدى واستنارة القلوب والفرقان بين الحق والباطل .

[ ص: 42 ] وقد اختلف في الضمير في قوله " عز وجل " : ( ولكن جعلناه نورا ) فقيل : يعود على الكتاب ، وقيل : على الإيمان ، والصحيح أنه يعود على الروح ، في قوله : ( روحا من أمرنا ) فأخبر تعالى أنه جعل أمره روحا ونورا وهدى ، ولهذا ترى صاحب اتباع الأمر والسنة قد كسي من الروح والنور وما يتبعهما من الحلاوة والمهابة والجلالة والقبول ما قد حرمه غيره ، كما قال الحسن : ( إن المؤمن من رزق حلاوة ومهابة ) ، وقال جل وعلا : ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات . . ) ، فأولياؤهم يعيدونهم إلى ما خلقوا فيه ، من ظلمة طبائعهم وجهلهم وأهوائهم ، وكلما أشرق لهم نور النبوة والوحي وكادوا أن يدخلوا فيه منعهم أولياؤهم منه وصدوهم ، فذلك إخراجهم إياهم من النور إلى الظلمات .

وقال جل وعلا : ( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها . . ) فأحياه سبحانه وتعالى بروحه الذي هو وحيه وهو روح [ ص: 43 ] الإيمان والعلم ، وجعل له نورا يمشي به بين أهل الظلمة كما يمشي الرجل بالسراج المضيء في الظلمة ، فهو يرى هل الظلمة في ظلماتهم وهم لا يرونه كالبصير الذي يمشي بين العميان .

التالي السابق


الخدمات العلمية